في حربها غير المسبوقة في همجيتها ووحشيتها على قطاع غزة، تجاوزت إسرائيل كل الخطوط الحمراء التي رسمها القانون الدولي الإنساني، وتخطت كل الحدود التي وضعها قانون حقوق الإنسان الدولي. فما ميزت كما ينبغي بين المدنيين والأعيان المدنية وبين العسكريين والمرافق العسكرية من جهة، ولا التزمت بمراعاة مبدأ الضرورات العسكرية من جهة أخرى. وارتكبت من المخالفات الجسيمة لأحكام القانونين المذكورين إلى الحد الذي أوصل إلى اتهامها بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية (قيد النظر في محكمة الجنايات الدولية)، وجريمة الإبادة الجماعية، أم الجرائم كلها (قيد النظر في محكمة العدل الدولية). ورغم مرور ما يزيد عن ثلاثة عشر شهرًا على الحرب المدمرة للإنسان والمكان والبنيان في قطاع غزة، ما زال المجتمع الدولي، بهيئاته ومحافله ومعاهداته ومحاكمه، عاجزًا عن وقفها. فما الذي يفسر مثل هذا العجز الفاضح؟ وما هي العبرة من إفلات إسرائيل من العقاب على ما ارتكبته، وما زالت ترتكبه، من جرائم مروعة قد لا تستثني جريمة الإبادة الجماعية؟

هذا العجز عن وقف الحرب لا يصعب تفسيره سياسيًا، وإن كان متعذرًا تبريره أخلاقيًا. فلم يعد سرًا على أحدٍ أن الولايات المتحدة الأميركية، الدولة الأقوى والأغنى والأكثر نفوذًا في العالم، تقف إلى جانب إسرائيل، داعمة وحامية، داعمة بالمال والسلاح، وحامية من بأس الأعداء كما من العقوبات السياسية الدولية وإدانات المحاكم والهيئات الحقوقية الدولية. أما لماذا تقوم الإدارات الأميركية المتعاقبة بدور الداعم والحامي لدولة الاحتلال فهذا أمر له علاقة وثيقة بالمصالح، مصالح أميركية كما يفهمها ويروجها رؤساءها والنخب واللوبيات المحيطة بهم. بكلمات أخرى، في حالة أميركية، كما في حالات معظم دول العالم، للمصالح أسبقية على المبادئ الأخلاقية وأحكام القانون الدولي الإنساني وقيم حقوق الإنسان، خاصة إذا كان هذا الإنسان ليس مواطنًا فيها. ومن هنا، من يريد ردع إسرائيل أو لجمها عليه أن يعرف كيف يخاطب ويستهدف مصالحها والمصالح الأميركية في المنطقة وأبعد.

وبفضل ذلك الدعم الأميركي المتواصل وتلك الحماية الأميركية المتواصلة، تمكنت إسرائيل عبر الزمن من التهرب من تنفيذ مئات القرارات الصادرة بحقها من قبل هيئات الأمم المتحدة، كما تمكنت من التحلل من التزاماتها الصريحة تجاه تلك الهيئات، بدءًا من عدم التزامها بقرار مجلس الأمن الدولي (273) الذي يقضى بقبولها دولة عضوًا في الأمم المتحدة عام 1949، وانتهاءً بقرارها قطع علاقات العمل مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967، وذلك بعد وصمها ظلمًا برعاية الإرهاب. وفي هذا الصدد، لم يكن حظ الفتاوى الاستشارية لمحكمة العدل الدولية أوفر بكثير.
الجدير ذكره أن هناك دولاً أخرى تشارك الولايات المتحدة الأميركية في تقديم هذا الدعم وتوفير تلك الحماية لدولة الاحتلال، وحاليًا ومنذ سنين طويلة، وإن كان بقدر أقل أو أكثر من الدسم أو الوتيرة أو الأثر، مثل بريطانيا وألمانيا وغيرهما من الدول. أكرر: ذلك الدعم وتلك الحماية المذكوران نابعان من، ومعبران عن توافق مصالح متغيرة أو متجددة أو متجذرة عبر الزمن وعبر المحن. والعبرة، لن يتوقف عدوان إسرائيل على قطاع غزة إلا إذا تضررت مصالحها أو/ومصالح الولايات المتحدة، الدولة الداعمة والحامية لها حاليًا. ولن تتضرر تلك المصالح لأي منهما نتيجةً للتصريحات والمناشدات وبيانات القمم العربية والإسلامية المجردة من أنياب العقوبات، مهما كثرت الأطراف التي تصدر عنها. غني عن القول بأن مثل هذه القرارات والبيانات والتصريحات غير المقترنة بأنياب العقوبات لم تفلح حتى بتأمين دخول الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية والإغاثية التي تحتاجها مئات آلاف العائلات من منكوبي الحرب في قطاع غزة.

ويسأل سائل من أهلها إذا كان حكام العرب، كما يقولون، يريدون وقف هذه الحرب المدمرة حقًا، فلماذا لا يلوحون باتخاذ تلك القرارات والإجراءات العقابية التي من شأنها الإضرار بمصالح الولايات المتحدة ومن خلالها، أو بالتوازي معها مصالح إسرائيل؟ الجواب على هذا التساؤل، كما يعرف العارفون، لا يستطيع أن يقفز عن مسألة المحاور المتنافسة والمتصارعة في المشرق العربي وطبيعة العلاقة المركبة لكل منها بكل من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل والمقاومة الإسلامية الفلسطينية وحلفائها. ليس المقام هنا لتحليل معمق لهذه العلاقات المركبة بين الأطراف المذكورة وتبعاتها على مجريات الحرب على غزة، كما تباين التصورات حول اليوم التالي للحرب وحول دور السلطة الوطنية الفلسطينية في كل ذلك. ولكن من الجلي والواضح، فإن مصالح حكام كل من دول المحور المصري والسعودي والإماراتي، مثلاً، تفقدها القدرة اللازمة للضغط على كل من إسرائيل والولايات المتحدة إلى الحد الذي يلزم لوقف الحرب، أو تخفيف وطأتها التدميرية. هذه الدول العربية وغيرها كريمة في إصدار النداءات والبيانات واستصدار القرارات في المحافل الإقليمية والدولية، وكذلك في مجال تقديم المساعدات الإنسانية أو تسهيل تقديمها، ولكن حين يتعلق الأمر بوقف الحرب، أو حتى تأمين التزام إسرائيل بقواعد وأحكام القانون الدولي الإنساني، فإن عجزها وقصورها فاضحان (أقل ما يقال). والتفسير ببساطة من يركض وراء دعم الولايات المتحدة أو/وحمايتها لا يستطيع أن يلوح أو يهدد بالإضرار بمصالحها.

وبالإجمال أقول: في ردها الثأري والوحشي على عملية "طوفان الأقصى" يوم السابع من شهر أكتوبر عام ٢٠٢٣، تجاوزت إسرائيل كل الخطوط الحمراء التي رسمها القانون الدولي الإنساني، وتخطت كل القيود والحدود التي وضعها قانون حقوق الإنسان الدولي. هذا التجاوز وذاك التخطي أوصلا إلى اتهامها بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، إضافة إلى اتهامها بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، أم الجرائم كلها. وما زالت هذه الحرب المدمرة للإنسان والمكان والبنيان في قطاع غزة على أشدها، بما يتخللها من مجازر مروعة وتجويع ونزوح قسري وحرمان من الأمن والتعليم والدواء والمأوى الحامي من القصف والمرض. وفي خضم هذه الحرب المدمرة تدفع الضفة الغربية، كما يدفع لبنان، حصة مهولة من الشهداء والجرحى والأسرى ومن الدمار في البنيان. ورغم كل ذلك، لم تفلح محاولات المحافل والمحاكم والقرارات الدولية في وقف هذه الحرب، أو حتى بإلزام إسرائيل بمراعاة أحكام كل من القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان الدولي. ويعرف العارفون أن هذا التمادي من قبل حكام إسرائيل يحظى بدعم ورعاية أميركية، الدولة الأغنى والأقوى والأكثر نفوذًا في العالم، دولة تعطي الأسبقية لمصالحها ومصالح حليفتها الرئيسة في المنطقة على المبادئ الأخلاقية والقوانين والقرارات الدولية. ومِن هنا، مَن يريد وقف الحرب أو تخفيف وطأتها كان عليه أن يستهدف المصالح الإسرائيلية والأميركية في المنطقة وأبعد. وختامًا، محبط ومحزن ومخجل حقًا أن الأطراف الأخرى عاجزين عن وقف الحرب، ما اضطرهم إلى مخاطبة الضمير الأميركي عوضًا عن استهداف مصالحه. ألا يدرك هؤلاء وغيرهم، وبعد كل الذي جرى خلال أكثر من ثلاثة عشر شهرًا، بأن ضمير أميركا خادم أمين لمصالحها ومآرب حليفتها المفضلة في المنطقة؟.