الشاعرة الفلسطينية نهى عودة

شهدت النخلةُ مولدَ المسيح عيسى عليه السّلام، وكانت تُسمّى في بعض الكتب المُقدّسة باسم "شجرة الحياة". كما كانت لها مكانة عظيمة في الحضارات الشرقية القديمة وصلَت إلى حدّ عبادتها، حيث "كان النخل طوطمًا وكانت عبادته دينًا واسع الانتشار بين الكلدانيين والآشوريين" كما قال الأستاذ العراقي "عبد الوهاب الدباغ" في أطروحته عن النخيل في خمسينيات القرن الماضي.
أمّا المؤرّخ الروماني "بلينيوس الأكبر"، الذي عاش في القرن الأول الميلادي (23 - 80 بعد الميلاد)، فقد ذكر في موسوعته "التاريخ الطبيعي"، التي طُبعت في خمسينيات القرن التاسع عشر، أنّ شجر النخيل كان منتشرًا من إيران إلى إسبانيا، وقال عن ثمرة "التّمر": "حقًّا إن التَّمرة عندما تكون بحالتها الطريّة الرّطبة تكون بالغة اللذة بحيث لا يستطيع الآكل أن يمتنع عن التهامها لو لم تكن عاقبة أكلها المُتمادي وخيمة".
وتروي كتب التراث العربي عن المكانة المرموقة للنخلة عند العرب الأقدمين، فقد جاء في "الشبكة العراقية للتمور" أنّ قبيلة عربيّة اسمها "جهينة" عاشت قبل ظهور الإسلام، "عملَت من التمر هيكلا اتّخذته إلهًا وعبدته، ولعل عمل هيكلِ الآلهة من مادة التّمر رمزٌ للوفرة والخصوبة. وقد ورد أنّه حينما حلّ القحط وانتشرَت بينهم المجاعة، اضطرت هذه القبيلة أن تجعل إلهها طعاما، فقال الشاعر فيهم:
أكلَت جهينةُ ربَّها -- زمن التقحُّم والمجاعة
وفي رواية أخرى أوردها "عبد الله عبد الجبار" في كتابه "قصة الأدب في الحجاز"، في الفصل الأول من الباب الثالث عن "معبودات الحجازيين وعاداتهم الدينية"، قال: وممّا يدعو إلى الضحك والرثاء، ما حُكي من أن بني حنيفة (قبيلة) اتّخذت لها صنمًا من حيس (عجين من تمرٍ وسمن ولبن مجفّف)، عبدته مدة طويلة، ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه، فقال الشاعر يعيّرهم:
أكلَت حنيفةُ ربَّها -- زمن التقحّم والمجاعة
لم يحذروا مِن ربِّهم -- سوء العواقب والتّباعة
والنخلة هي الشجرة الوحيدة التي احتلّت مكانة متميّزة فيما يُعرف بـ "شريعة حمورابي" نسبة إلى الملك البابلي "حمورابي" الذي حكَم بلاد الرافدين في الفترة (1792 - 1750 قبل الميلاد). ويُقال بأنّ تلك الشريعة هي أوّل قوانين مكتوبة في التاريخ، وقد ضمّت 282 قانونًا في كافة جوانب الحياة: السياسية والاجتماعية والعسكرية، منها سبعة قوانين خاصة بالنخيل، فقد جاء في المادة 59 أنّ مَن يقطع شجرة نخلٍ واحدة عليه أن يدفع غرامة مقدارها حوالي نصف رطلٍ من الفضّة. وجاء في المادة 64 أنه إذا كُلِّف فلاحٌ ببستان نخيل للعناية به وتلقيح أشجاره وسقايتها.. فإنه يُسلّم ثُلثَي المحصول إلى مالك البستان ويأخذ الثلث المتبقّي. وجاء في المادة 65 أنّ الفلاّح إذا تهاون في عمله وأهمل البستان وتسبّب في تضييع المحصول أو تقليله، فيتوجّب عليه أن يدفع الفرق قياسًا بمحاصيل بساتين النخلة المُجاورة للبستان الذي تكلَّف به.
ولا عجب أن تستأثر النخلة بهذه المكانة "القُدسية" في الأديان والحضارات والمعتقدات الشعبية، ففي الإسلام هناك أحاديث نبوية شريفة شبّهت النخلة بالمؤمن لاعتبارات عديدة.. وهناك من الباحثين والكُتّاب من ذهب إلى تشبيه النخلة بالإنسان من حيث بعض الميزات البيولوجية والنفسية. فقد جاء العالم اللغوي "أبو حاتم السجستاني" (ت 248 هـ) في كتابه "النخلة": "وقال لي أعرابي من بني كلاب.. عندنا نخل نسمّيه المخانيث، يُلقّح بطلعها، وما بقي يصير بسرًا طيبًا"، ذلك أنّ النخيل فيه المؤنّث (يحمل الطّلع الذي يصير تمرًا) والمُذكّر (يحمل حبوب اللقاح التي تلقّح حبوب الطلع، ويُقال له الفحل أو الفحّال)، وما أشار إليه "السجستاني" هو نوع ثالث من النخيل يحمل حبوب الطلع وحبوب اللقاح معا، ولعله من الطّفرات التي يندر وجودها.
من الأمور الأخرى التي ذكرها صاحب كتاب "النخلة" أنّ هذه الشجرة "تشبه الإنسان في العشق والهوى الناتجيَن بسبب المجاورة مع نخلة أخرى أو قد يصيبها الملل بسبب شرب ماء واحد". بل يُقال بأنّ النخلة ترتبط بصاحبها ارتباطا "روحيًّا" فإذا ما غاب طويلا تبتئس ويشحب اخضرارها، وإذا ما عاد إليها يهتزّ سعفها وجريدها فرحًا بعودته (وهذا النوع الوفيّ من النخيل كان موجودا في العراق كما تذكر بعض كتب التراث العربي). بل هناك من تحدّث عن العشق عند النخيل، فقد أورد الشيخ "أطفيش الجزائري" (ت العام 1914) في كتابه "النحلة في غرس النخلة": "والعشق هو أن تميل شجرة إلى أخرى، ويخفّ حملها وتهزل، وعلاجها أن يُشدّ بينها وبين معشوقتها التي مالت إليها بحبلٍ أو يُعلّق عليها سعفةٌ منها أو يجعل فيها من طلعها"، فالعشق عند النخلة قد يتحوّل إلى مرضٍ له علاجه كما ذكَر الشيخ "أطفيش الجزائري".
والمقارنة بين النخلة والإنسان حديث يطول، فهناك من يقول بأن النخلة هي الشجرة الوحيدة التي إذا قُطع رأسها تموت مثل الإنسان وذلك عكس الأشجار الأخرى. وهناك من يقول بأنّ رائحة حبوب طلع التلقيح لذكر النخلة (الفحّال) يُماثل رائحة المني عند الرّجل، بل إنّ هناك وصفات شعبية لعلاج العقم عند الإنسان بتلك الحبوب.. 
أوردت كُتب التراث قصة نخلتين في "عقبة حلوان" بالعراق، كانت النساء تلجأ إليهما لمناجاتهما وبث شكواهنّ والتّصريح بأمانيهنّ لهنّ.. ومع مرور الوقت، تحوّلت تلك المناجاة إلى طقوس لها مواسمها، حيث تقوم المرأة باختيار "فحّال" لتشكيه همومها وتعبّر له عن أمانيها، وخاصة إذا كانت امرأة متزوّجة لم تُرزق بالأولاد. وقد أنشد الشاعر العبّاسي "البطين بن أمية البجلي" قائلا:
يطُفن بفحَّالٍ، كأنَّ ضَبابه -- بطون الموالي، يوم عيدٍ، تغدَّت
(الفحّال: ذكر النّخل. ضبابه: طلعُه ضخمٌ مثل بطون الموالي)
ويبدو أنّ مثل هذه الاعتقادات الشعبية ما زالت موجودة إلى الآن، فقد روى أحد الكُتّاب: "كان هناك نخلة كبيرة، معروفة بفحّال الشيخ عليِّ.. ومن الطرائف عن (فحَّال الشيخ علي) أن بعض سكان الحيِّ - وخصوصا النساء - يعتقدون بهذا الفحّال، فكانت من تتأخّر في الحمل، تذهب إلى فحَّال الشيخ علي، فتحتضنه وتضمّه وهي تقول: يا فحّال.. يا فحّال/ كلٌّ حمَل وجاب عيال/ إلا أنا ما جاني العيال.."، ولسنا نعلم إن كان "فحَّال الشيخ علي" ذا جدوى في نفع علاج العقم، أم أنه كان الخشبة التي يحتضنها العقيم!
وحسبنا الحديث النبوي الشريف: "أكرِمُوا عمَّتَكمُ النَّخلةَ، فإنَّها خُلِقتْ من فضْلَةِ طِينةِ أبِيكمْ آدمَ، وليسَ من الشجَرِ شجرةٌ أكرَمَ على اللهِ من شجرةٍ وُلِدَتْ تحتَها مرْيمُ بنتُ عِمرانَ، فأطْعِمُوا نِساءَكمْ الوُلَّدَ الرُّطَبَ، فإنْ لمْ يكنْ رُطَبًا فتَمْر". فلو لم يكن هناك مُشتركات وتشابه بين النخلة والإنسان ما كانت عمّتها ولَما أوصانا الرسول الكريم بإكرامها..