تثير عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تساؤلات كبيرة حول مستقبل السياسة الأميركية الداخلية والخارحية على حدٍّ سواء، حيث تحمل مواقفه السابقة وسجله السياسي دلالات لا يمكن تجاهلها. فعلى الرغم من التحديات القانونية والفضائح التي لاحقته، عادت شعبية ترامب للارتفاع وفاز فوزاً كاسحاً من خلال استغلاله إحباط الأميركيين من إخفاقات إدارة بايدن، لا سيما في الملف الاقتصادي الذي يمثل أولوية قصوى للناخب الأميركي. وقد أعطى هذا الاستياء الشعبي من الوضع الاقتصادي، ترامب فرصة لإعادة طرح شعاره "أميركا أولاً"، والذي يُركّز على تقديم المصالح الوطنية الأميركية على حساب الالتزامات الدولية، ما يعني احتمالية تقليص التدخلات الخارجية وتعزيز السياسات الاقتصادية المحلية.
وقد يدفع هذا التوجه الجديد لترامب الولايات المتحدة إلى مراجعة تحالفاتها وتخفيض التزاماتها الخارجية، ما أثار قلقاً أوروبياً، ظهر بوضوح في تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي دعا فيها إلى عدم "تفويض أمن أوروبا للأبد" للولايات المتحدة الأميركية. وتعكس هذه التصريحات تزايد الرغبة الأوروبية في الاستقلال الاستراتيجي، وهو ما سبق أن عبّرت عنه المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل خلال ولاية ترامب الأولى، مشيرةً إلى ضرورة أن تتولى أوروبا مصيرها بنفسها. وإذا ما قررت الولايات المتحدة فعلاً الابتعاد عن دورها التقليدي كضامن للأمن الأوروبي، فقد يشجع هذا أوروبا على تبني نهج مستقل، ونأمل أن تنتقل العدوى في هذا السياق إلى الدول العربية من حيث التفكير بجديةٍ في تقليص اعتمادها على الحماية الأميركية، والبحث عن تعاون إقليمي يُسهم في استقرارها وأمنها.
وعلى صعيد القضية الفلسطينية، يبدو أن عودة ترامب قد تعني استمراراً وربما تعميقاً لدعمه غير المشروط لإسرائيل، حيث تشير سياساته السابقة إلى احتمال تجاهل كبير للحقوق الفلسطينية. فقد شهدت ولايته الأولى قرارات مفصلية مثل الاعتراف بالقدس عاصمة موحّدة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، وتقليص الدعم المقدم لوكالة الأونروا، مما عزز من الموقف الإسرائيلي على حساب الفلسطينيين. ومن المرجح أن يسعى ترامب للاستمرار في تعزيز النفوذ الإسرائيلي، وقد يتضمن ذلك العمل على تقويض المنظومة الدولية التي تدعم حقوق الشعب الفلسطيني، وتوسيع التطبيع العربي مع إسرائيل، فضلاً عن تشجيعها على توسيع سيطرتها على الأراضي الفلسطينية، ضمن سياق يظهر كـ "خطة للسلام"، لكنه في الواقع يخدم الأهداف الإسرائيلية بشكل رئيسي، ويصوّر فيه ترامب نفسه كـ "صانع سلام" دون أي حقوق تُذكر للفلسطينيين.
ويجد الفلسطينيون أنفسهم اليوم أمام تحديات مضاعفة تتطلّب منهم توحيد صفوفهم للتصدي لمحاولات تهميش قضيتهم، فصمودنا في هذه المرحلة المفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية مرهون بوحدة وطنية راسخة واستراتيجيات تضمن البقاء وتحشد الدعم الدولي للحقوق الثابتة، وأسلوبنا الحالي في الحوار هو هزيمة لنا، بينما الأسلوب النضالي المشترك هو النصر بحد ذاته.
تأتي عودة ترامب في وقت تشهد فيه المنطقة العربية تحديات كبيرة، سواء على الصعيدين الداخلي أو الخارجي، حيث تتجسّد في الانقسامات الإقليمية وتزايد تدخل القوى الدولية في شؤونها. ومع تراجع التضامن العربي، أصبح من الضروري أن تسعى النخب السياسية والفكرية في العالم العربي إلى بناء رؤية موحدة تضمن حقوق الشعوب في السيادة والاستقلال بعيداً عن التبعية للقوى الأجنبية. ويمكن لجامعة الدول العربية أن تلعب دوراً مهماً في هذا السياق إذا توفرت الإرادة السياسية وتم تفعيلها بشكلٍ جاد، بما يعزز التعاون العربي ويتيح بناء استراتيجيات إقليمية قائمة على المصالح المشتركة، ويضمن مسارًا سياسيًا لتحقيق حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، ويعزز استقرار المنطقة العربية واستقلالها في ظل التحولات العالمية المتسارعة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها