العودة الى التوتر، والى أسلوب الاستدعاءات وتطيير الاتهامات؛ يمثل معالجة بالمقلوب، وعن توقعات خاطئة، ناتجة عن قراءة قاصرة لما حدث في مصر وفي المنطقة. لقد مرت «حماس» بتجربة حكم في غزة، باتت تستوجب وقفة موضوعية مع الذات، لكي تكتشف هذه الحركة، أن محاولة تأطير محازبيها كشعب خاص بها، جلبت عليها نقمة الناس. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن منطق المفاضلة والتمييز، بين «الشعب الحمساوي» المصطفى، على قاعدة الجهة والقرية الصغيرة والعصبية الحزبية الضيقة، حقنت جسم «حماس» نفسه، بفيروسات الهُزال وفقدان الصدقية. ولا ضرورة للتفصيل في ذلك، لأن حالات التمايز داخل الفضاء الحمساوي، تعبر عن نفسها في الداخل وفي الخارج!
اليوم نحن نواجه مشكلة في الجوار العربي القريب والأهم، وهو مصر. ومثلما توقعنا مبكراً، أصبح الفلسطيني بشكل عام هو المستهدف. لقد حذرنا جماعتنا الفتحاويين، من الانجرار الى التوافق مع بعض الإعلام المصري على تحميل «حماس» أية مسؤولية عن تردي الوضع الأمني في مصر أو عن قتل مصريين. بعضنا أغوته الخصومة فتماشى وكان مخطئاً، لأنه ربما بعيد عن الساحة ولا يعرف الكثير عن سيكولوجية المواطن المصري ومدى تأثره بالتحريض الإعلامي الذي لا يميز بين فلسطيني وآخر. إن الأمور تنفلت. فقد قرأت أمس مقابلة أجرتها صحيفة «الوطن» المصرية، مع استاذ الشريعة في الأزهر، د. أحمد كريمة، يزعم فيها أن 70% من محتشدي «رابعة» مرتزقة سوريون وفلسطينيون. نعم هكذا، وبلسان أستاذ شريعة. وهنا ينشط المعمّمون على جانبي الخصومة، وفي الجانبين يزعمون أنهم ينطقون بوحي من الله والإيمان. ولا جدوى من التراشق بالتصنيفات، لأن من يرى الآخرين مارقين وكاذبين، سيكون هو أيضاً مارقاً وكاذباً في نظرهم، وهذه مهاترات لا تفسر الواقع ولا تحرك التاريخ!
إن ما يحدث، بمجمله، يدعونا الى الذهاب سريعاً نحو المصالحة. فقد ازدادت أسباب إنجاز هذه العصيّة، التي احبطتها الغرائز، ما يقتضي أن تسارع «حماس» الى وقفة موضوعية وواقعية مع النفس، من شأنها أن تضعها أمام حقائق لا يتجاهلها إلا مكابر. أولى هذه الحقائق أن «المقاومة» المسلحة، التي هي حق من حيث المبدأ، لن تتوافر شروط إطلاقها في المستقبل القريب. لقد كانت تلك «المقاومة» وصواريخها، أيقونة الخطاب الحمساوي وفرسه الرابحة، لكنها باتت الآن، أيقونة مفتقدة وفرساً نائمة، يعبر عنها البعض بالجملة الفضفاضة: «برنامج المقاومة». والفساد، الذي كان حجة على حكم السلطة الوطنية، بدا مزاحاً بالنسبة لتكالب شريحة حمساوية، ذات جينات أسوأ من جينات الشريحة الفتحاوية بكثير؛ على العقارات والأطيان والسيارات ورغد العيش وعلى اعتصار المجتمع. وبات من الواجب الوطني، أن يذهب الغيورون الوطنيون إسلاميون وغير إسلاميين الى مشروع ديموقراطي له مؤسساته النافذة التي تكرّس العدالة والشفافية، وتُصيغ السياسات وفق الرؤية التي تلائم كل مرحلة، وتحاسب السلطة التنفيذية وتمنع العربدة من كل نوع، لأن المواطن الفلسطيني، بات لا يعرف أين يشكو مظلمته. إن أخطر ما فعلته الخصومة، هو تضييع ميزان الحكم وميزان العدالة، وتضييع «الطاسة» تحت عناوين التنازل والتفريط، بينما ليس في أيدينا جميعاً أي شيء نفرط فيه، وما زلنا نغالب احتلالاً جاثماً على الأرض، أو محاصراً لها، ولا مدد عربياً أو إسلامياً، أعلى من مستوى النزر اليسير من الإغاثة الإنسانية، التي استكثرها علينا حسب نكتة دارجة زائر سوداني متضامن!
فما خسره «الإخوان» من خلال ضغوطهم على الرئيس محمد مرسي، ضيّع فرصة تقديم أمثولة «إخوانية» للحكم وأدخل غالبية المصريين في حال من التحسب ومن الخوف على مستقبل الدولة. وليت ذلك حدث بكبرياء وترفع، يليق بقوة عقائدية حشدت لنفسها تأييداً شعبياً، وإنما باعتماد سياسات لزجة حيال العدو القومي والعقائدي الذي تمثله إسرائيل وحلفاؤها من عُتاة اليمين المتطرف. فعلى هذا الصعيد، سرعان ما بدا للأسف أن ثمة مشتركات بين هؤلاء وجماعة «الإخوان». وأذكر كيف خفّ جون ماكين، الحقود الكاره للعرب وللمسلمين، الى مصر، لكي يجتمع بخيرت الشاطر في شباط (فبراير) 2012. وقد جرى حديث بيني وبين الكاتب الإسلامي فهمي هويدي حول مقالة له تناولت باستهجان موضوع الاجتماع ونتائجه تحت عنوان «في الوفاق المذموم». قال هويدي يومها: عندما يتوافق ماكين مع «الإخوان» فإننا نصبح أمام احتمالين: إما أن يكون الرجل تنازل عن صهيونيته من أجل المشروع الإسلامي وهذا مستحيل، أو أن المشروع الإخواني لم يكن معادياً للمشروع الإسرائيلي من قريب أو بعيد!
لم يعد هناك من يَطْرَب، على الصعيد الفلسطيني، لخطاب التأثيم والتخوين. ومن المفارقات أن مثل هذا الخطاب، جاء بنتائج معكوسة لأنه يشطب بطبيعته، وجاهة المنطق المسؤول والسديد. فالتهمة التي سُمعت في غزة، بـ «التخابر مع رام الله» هي من ضلع التهمة التي سُمعت في القاهرة بـ «التخابر مع حماس». وهكذا تتردى الأمور، وتستقر المسائل في دائرة اللامعقول!
بدل العُصاب والتفلت على الوطنيين واتهامهم بالتحريض، يتوجب على «حماس» أن تقف مع نفسها وتفكر ملياً، وأن تقرأ الواقع جيداً. هناك أمور كثيرة مفتقدة في الضفة، وأخرى كثيرة مفتقدة في غزة، مخصومة كلها من حق المواطن في نظام سياسي قوي، ينهض بقضية مضنية وشائكة. ولن يصل طرف الى شيء ذي قيمة، إن لم يذهب الطرفان الى مصالحة على أسس دستورية وقانونية، يحاسب في ظلها القاتل والفاسد، ويُنصف المواطن، وتُكرّس العدالة. أما النزق واختلاق المظلمة تلو الأخرى، عن تحريضات فتحاوية ودسائس مفترضة، فإن هذا كله لا يفيد، بل إنه يرتد وبالاً على طرفي الخصومة!