بذل جون كيري وزير الخارجية الأميركي جهوداً على مدار ستة شهور من أجل إعادة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي إلى طاولة المفاوضات، ونجح أخيراً في الحصول على الموافقة الأولية من الجانبين على العودة، لكنَّ محاولة الولادة القيصرية للمفاوضات مُحاطة بالمخاطر التي تدركها كافة الأطراف، وذلك بسبب التناقض والتباعد في المواقف، والخلاف يكاد يكون جذرياً.

من الواضح أن جون كيري لا يرغب بالعودة إلى واشنطن بخفي حُنين، ويرضى بإنجاز هو أقرب إلى الأوهام منه إلى تحقيق السلام.  القيادة الفلسطينية تفهم جيداً ماذا يجري على أرض الواقع، وهي غير مخدوعة بالموقف الإسرائيلي، كما أنها لم تلمس خلال السنوات الثلاث السابقة أي تطور إيجابي في الموقف الأميركي خاصة قدرته على إلزام الاحتلال الإسرائيلي على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، والاتفاقات الموقع عليها، وأكثر من ذلك فإن الولايات المتحدة التي تدَّعي حرصها على حل الدولتين، وتقول بأن الاستيطان غير شرعي، لكنها عملياً أعجز من أن تُلزِم الكيان الإسرائيلي بهذه الأسس، وعلى العكس تماماً فإنها تشكل غالباً الغطاء للمخططات الإسرائيلية.

لا شك أنَّ المعركة الأهم بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي هي أن كل طرف يحاول أن يعزل الطرف الآخر، وأن يظهره بأنه هو المدان، وهو الخارج عن إرادة الشرعية الدولية، وهو المعطِّل لعملية السلام، هذه المعركة الخفية هي التي تفسِّر مختلف المواقف من الطرفين والتي هي أقرب إلى تقطيع الأيام وتمريرها منها إلى تثبيت أسس التفاوض العملية.

إذا أردنا الإجابة عن السؤال الأول وهو:  هل سينجح كيري في مهمته؟

لا بد أن ندقِّق جيداً في مواقف الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي حتى يكون حكماً صائباً وموضوعياً:

الموقف الإسرائيلي من القضايا النهائية لم يتبدَّل، وإنما أصبح أكثر تجذَّراً، فالكيان الإسرائيلي بحكومته المتطرفة الحالية يؤمن بضرورة توسيع وتكثيف الاستيطان في الأراضي المحتلة العام 1967، وغير مستعد للتساهل في هذا الموضوع حتى لا يحدث تشققات في الحكومة العنصرية الحالية.

أضف إلى ذلك أن ممارسة القمع والتهويد ضد أهالي النقب والأغوار واقتلاع المواطنين البدو من هناك، ومصادرة أراضيهم، هو عدوان يومي، ومؤشر خطير على ما يخطط له الكيان الإسرائيلي عبر مخطط (برافر) وغيره.  وموضوع الاستيطان هي نقطة خلافية جوهرية وهي التي أوقفت المفاوضات سابقاً، وعصفت بكل عوامل الثقة بين الجانبين.

والموقف الإسرائيلي الثاني العدائي هو الرفض المطلق للمرجعية الدولية لعملية السلام، ولأي عملية تفاوض مستقبلية، وبالتالي هي ترفض مضمون القرار الدولي الذي اعترف بالدولة الفلسطينية كعضو مراقب وامتدادها على الأراضي المحتلة في 4/6/1967، وما زالت تخطط لدولة ذات حدود مؤقتة على جزء من أراضي الضفة المكتظة بالاستيطان، وربما تفرض "إسرائيل" رؤيتها هذه من خلال الانسحاب الكيفي من طرف واحد، وهذا أمر خطير.

أما الموقف الثالث فإسرائيل تطالب الفلسطينيين الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية أي نظيفة من أي عنصر عربي إسلامي أو مسيحي، وهذا يعني أكثر بأنه غير مسموح عودة اللاجئين إلى أراضيهم التاريخية استناداً إلى القرار 194، وأن أي حل لموضوع اللاجئين يكون في أراضي السلطة الوطنية، أو من خلال التوطين.  وهذا الموضوع جوهري ومصيري بالنسبة للفلسطينيين ولا يقبل المساومة. أما الموضوع الرابع فهو موضوع القدس الذي حسمته القيادة الإسرائيلية العام 1967 عندما احتلت القدس، وضمتها، وبدأت تعبث بأرضها وبيوتها مصادرةً وتدميراً، وبأهلها تنكيلاً وتهجيراً من اجل ضمان القدس الموحدة عاصمة إسرائيل، وقد قطعت شوطاً طويلاً على أرض الواقع في هذا المجال، وهذا يعتبر قمة التحدي للشعب الفلسطيني وتقرير مصيره في أرضه.

فطالما أن الحكومة الإسرائيلية ممعنة في عنصريتها، ولا ترى إلاَّ مصالحها ولا تلتزم بأية إملاءات أوروبية أو أميركية، أو من اللجنة الرباعية، فلماذا إذاً أعطت القيادةُ الفلسطينية موافقتها على خطة كيري؟ وما الذي تأمله؟

أ‌- إن القيادة الفلسطينية وافقت على العودة إلى طاولة المفاوضات رغم انها تدرك بأن شروطها الجوهرية التي تحدثت عنها سابقاً للعودة إلى المفاوضات لم تتوافر، وخاصة المرجعية الدولية، ووقف الاستيطان، وإطلاق قيد الأسرى رغم القرار الذي اتخذه مجلس وزراء العدو بالافراج عن (104) اسيراً والذي يحتاج الى ترجمة عملية، ولكن هل هذا يعني أن القيادة الفلسطينية ستقبل مناقشة القضايا النهائية بعيداً عن هذه الشروط، بالتأكيد لا، والقيادة الفلسطينية تميِّز بين تلبية دعوة كيري التي وجهها للطرفين والتي بدأت بجولة باشراف كيري في واشنطن والاتفاق على الاتفاق، لأنه أصلاً لا يوجد اتفاق، والجلسة الاولى يجب ان تحدد مستلزمات الاستمرار في المفاوضات، والأهم أن هناك سقفاً لهذه المفاوضات، وهو في حده الأقصى تسعة شهور.

ب‌- القيادة الفلسطينية سبق لها أن أخذت موقفاً حاسماً بالنسبة للمفاوضات وأوقفتها لأنَّ الجانب الاسرائيلي كان يريد المفاوضات كغطاء لمواصلة مشاريعه الاستيطانية، ورغم هذا الموقف المبدئي للرئيس ابو مازن إلاَّ ان الساحة الفلسطينية لم تستثمر هذا الموقف من اجل تحقيق المصالحة الوطنية وانهاء الانقسام. وبقيت حركة حماس ملتزمة برؤيتها الخاصة فيما يتعلق بقطاع غزة، وهذه مشكلة تفرض نفسها سلباً على الواقع الفلسطيني .

ت‌- القيادة الفلسطينية تعيش سلسلة أزمات منها ما يسببها الاحتلال، ومنها ما هو ناتج عن تدني مستوى الاداء العربي. ومنها ما يتعلق بالموقف الاوروبي المتأثر بشكل كبير بالموقف الأميركي. وهذه الازمات تضع القيادة الفلسطينية امام خيارات معقَّدة، وبالتالي لا تستطيع تجاهل الواقع المؤلم. فهناك أزمة مالية بسبب الحصار المالي الذي تمارسه الولايات المتحدة، واوروبا، واسرائيل، والدول العربية في إطار خطة تفرضها واشنطن للضغط على القيادة الفلسطينية، وهناك أزمة اقتصادية سببها المباشر الاحتلال الاسرائيلي، وربطه الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الاسرائيلي، والتحكم بالداخل والخارج. أضف الى ذلك الازمات التي باتت تهدد ابناء شعبنا وخاصة في القدس من اقتلاع وتهجير، ومصادرة الاراضي، وتعطيل عمل المؤسسات والاعتقالات اليومية، ومعاناة اهالي الاسرى، وغيرها. مجمل هذه الازمات جعل القيادة الفلسطينية تقبل المشاركة في المفاوضات وهي تدرك الفشل مسبقاً، ولا تبني آمالاً على ذلك لأنها تجد ان أسس نجاح المفاوضات مفقودة، وكيري لم يستطع بدوره ان يفرض على نتنياهو على الاقل رؤية الولايات المتحدة سواء ما يتعلق بحل الدولتين، أو بالمرجعية الدولية، أو بوقف الاستيطان.

ث‌- الرئيس أبو مازن قدَّم مواقف واضحة تتعلق بمجمل القضايا وهي رسالة إلى كل الاطراف، ومنها الطرف الفلسطيني، وخاصة ما جاء على لسانه في لقائه مع كتاب وصحافيين في رام الله:" لدينا دائماً ما نقوله كفلسطينيين، وهناك خطوات أخرى نعلن عنها، وليست المفاوضات سبيلنا الوحيد، لكنها إحدى الخيارات مع تمسكنا بثوابتنا الوطنية الفلسطينية التي لم نتنازل عليها".

لاشك أن القيادة الفلسطينية تدرك تماماً الهوة بين الطرفين، كما تدرك بأن الاجتماع المرتقب في واشنطن بإشراف كيري لا يمتلك مقومات النجاح، لكنه سيكون منبراً للجانب الفلسطيني للتأكيد على ثوابته، وحقوقه الوطنية المشروعة، وهذا ما ينتظره الشعب الفلسطيني.

صحيح أن الشعب الفلسطيني يعيش أوضاعاً صعبة، وتحدياتٍ هائلة، ولكن علينا أن لا ننسى أننا ما زلنا نمتلك أسلحة مهمة في الصراع ضد الاحتلال.

فنحن أولاً حصلنا على دولة عضو مراقب باعتراف العالم بأغلبية ساحقة، ونحن الآن دولة تحت الاحتلال نقاتل من أجل الحرية والاستقلال وهذا مركز قوة لنا وليس مركز ضعف، ونحن الوحيدون الذين نقف في الخندق الامامي في حالة صراع يومي ضد المحتل.

ثانياً:  حتى الآن نحن لم نفعِّل ما بأيدينا من وسائل قوة وتأثير في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي وخاصة انضمامنا الى المؤسسات والهيئات  الدولية التخصصية وتحديداً المحكمة الجنائية الدولية، ومنظمات حقوق الإنسان واتفاقيات جنيف الأربع وغيرها.

ثالثا:  إنَّ التعنت الإسرائيلي وحالة الإجرام القائمة ضد شعبنا ستقود حتماً إلى انفجار الطاقات الثورية الوطنية الشعبية التي تعبِّر عن نفسها من خلال مقاومة عارمة وشاملة قوامها مختلف الشرائح النقابية، والشبابية، والشعبية لإرغام الاحتلال على الانسحاب من الأراضي المحتلة العام 1967.

رابعاً:  إنَّ القيادة الفلسطينية بما تمثِّل هي صاحبة الحق ألحصري في الموافقة أو عدم الموافقة على إنهاء حالة الصراع مع الاحتلال، فلو اجتمعت أمم الأرض بكاملها لإنهاء الصراع لن تستطيع طالما أن القيادة الفلسطينية ترفض ذلك.

علينا أن نتفهم حقَّ القيادة في اختيار الخيار الأسلم والأنسب ولكن من حقنا على قيادتنا أن لا تتنازل عن أي حق من حقوقنا المشروعة، ولا من الثوابت الوطنية، والقضايا النهائية ليست ملكاً لجيل محدد وإنما هي ملكٌ لكل الأجيال، والجيل بعد الآخر حتى النصر.