يؤرّخ الفلسطينيون زمانهم بالنكبات والأيام الحزينة والمناسبات المؤلمة، وفي الوقت نفسه يتذكّرون تواريخ المجد ووقفات العز ومعارك البطولة والصمود. وكلمة "النكبة" التي أطلقها قسطنطين زريق على ما جرى في فلسطين في سنة 1948 كانت تشير إلى حدث محدّد هو وقوع فلسطين في أيدي الصهيونية.أما النكبة الثانية التي وقعت في سنة 1967 فقد تواطأ العرب كلّهم على تسميتها بـــ "النكسة"، مع أنها نكبة حقيقية بمعايير التاريخ والوقائع والآثار السياسية والاجتماعية التي خلّفتها.

سنتجاوز ما حل بالفلسطينيين في الأردن في سنة 1970، وما حل بهم في لبنان منذ سنة 1974 (تدمير مخيم النبطية) حتى سنة 1982 (مجزرة صبرا وشاتيلا)، وما جرى لهم في الكويت في سنة 1991، وفي العراق سنة 2003، والمآسي التي فتكت بأهلنا في الضفة الغربية وقطاع غزة، لنقول إن ما يشهده الفلسطينيون في سورية في هذه الأيام إنما هو نكبة ثالثة بجميع المعايير والمقاييس بلا مبالغة. فالفلسطينيون في سورية يفوق عددهم الستمئة ألف شخص (500 ألف لاجئ وأكثر من مئة ألف فلسطيني آخر من منابت متعددة)، وهم، في معظمهم، قد باتوا الآن في العراء إلى حد بعيد، وصاروا مشرّدين هنا وهناك خارج منازلهم، في داخل سورية وخارجها، لأن سبعة مخيمات من أصل اثني عشر مخيّمًا صارت مسرحًا للقتال. وكما هو واضح للجميع، فإن الأزمة السورية طويلة ومستعصية، ولا يبدو أن ثمة مخرجًا منها في المدى المنظور، الأمر الذي يمكن أن نتوقّع معه تزايد أعداد الفلسطينيين المتدفّقين على بلدان اللجوء، وبالتحديد على لبنان، لأن الأردن أقفل أبوابه في وجه الفلسطينيين القادمين من سورية منذ بداية الأحداث بعد تسلل نحو سبعة آلاف لاجئ إلى أراضيه، وإمكانات اللجوء إلى تركيا أو العراق محدودة، فلا يبقى غير لبنان مكانًا للاحتماء من هول هذه الحرب العابثة (15% من فلسطينيي سورية نزحوا إلى لبنان والأردن ومصر وتركيا).

***

في لبنان وحده بلغ عدد العائلات الفلسطينية النازحة من سورية نحو 17400 عائلة (حتى آخر حزيران 2013)، أي نحو 70 ألف فلسطيني على الأقل. وهذا الرقم التراكمي أقل من الرقم الفعلي للنازحين، ما يعني أن ثمة أعدادًا غير محددة تمامًا قد غادرت لبنان إلى بقاع العالم الواسعة، أي أن خطر التهجير إلى بلاد جديدة قد بدأ يفعل فعله، وأن التوطين في المهاجر البعيدة صار واقعًا ملموسًا. ولا ريب في أن الكتلة البشرية الفلسطينية في لبنان وسورية، وهي تعد نحو مليون لاجئ، هي الكتلة الأكبر بين اللاجئين (في ما عدا فلسطين والأردن)، وهي التي تحمّلت أعباء الثورة الفلسطينية في مراحلها الأولى، وقدّمت النصيب الأوفر من التضحيات، وتكاد اليوم أن تندثر، أو هي مهددة بالانكماش الفعلي، ما دامت أحوالها الخطيرة لا تجد من يعالجها ويخفف وطأتها.

إن نكبة حقيقية تنتظر الفلسطينيين في سورية، وها هي مقدماتها باتت ماثلة للعيان. وحتى إذا عاد الفلسطينيون قريبًا إلى مخيّماتهم في سورية، فسيجدون منازلهم مدمّرة، وأحياءهم خربة، ومدارس أولادهم محطمة، وأعمالهم متوقفة، ومصالحهم معطلة، الأمر الذي يستدعي وضع خطط الطوارئ منذ الآن لمواجهة التوقعات الممكنة في هذا الميدان، وإلا فإن الشعب الفلسطيني سيخسر، بالتدريج، وجودًا حيًا في بلاد الشام التي تحوط فلسطين كسوار الياسمين؛ ففي هذه الأماكن (سورية ولبنان) قدم الفلسطينيون أفضل ما لديهم في الأدب والفن والثقافة والسياسة والنضال. وفي سورية وحدها لمع كثيرون جدًا من الأدباء والفنانين والشعراء أمثال غسان كنفاني وأحمد دحبور وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، والموسيقار حسين نازك، والمخرجين المثنى صبح وباسل الخطيب وفراس كيلاني، والكاتب الدرامي هاني السعدي، والممثلين والممثلات نسرين طافش وشكران مرتجى ولينا حوارنة وفرح بسيسو ونادين سلامة وروعة السعدي وعبد المنعم عمايري وزيناتي قدسية وأديب قدورة ويوسف حنا، وغيرهم كثيرون جدًا.

***

إن أكثر ما يثير الغضب في أحوال الفلسطينيين النازحين إلى لبنان هو التمييز المكشوف بين الفلسطينيين والسوريين، مع أن الجميع جاء من الأمكنة نفسها، وجراء الأحداث نفسها. وهذا التمييز غريب تمامًا على الفلسطيني النازح الذي عاش كالمواطن السوري في سورية، وها هو اليوم يخضع للطريقة اللبنانية في تصنيف البشر، وعلى الدولة اللبنانية واجب تقديم العون لهؤلاء النازحين من دون تلكؤ ومن دون منّة؛ فهذا واجبها الإنساني والقانوني والأخلاقي والقومي، فضلًا عن واجب الجميع أيضًا كمنظمة التحرير الفلسطينية والأونروا وهيئات المجتمع الأهلي الفلسطيني.

إن المهمات العاجلة هي الإيواء ثم الإنفاق الجاري على متطلّبات الحياة اليومية، ثم الطبابة، وبعد ذلك افتتاح صفوف للتدريس بحسب المناهج السورية، وأخيرًا السعي لحل مشكلة الإقامة لدى السلطات الرسمية اللبنانية. ولا شك في أن السلطات اللبنانية اتّخذت إجراءات تسهّل، إلى حد ما، إقامة النازحين في لبنان وإجراءات الدخول عند معابر الحدود، لكن المطلوب أكثر من ذلك بكثير؛ المطلوب مساواة الفلسطيني بالسوري، على الأقل في عدد أيام الإقامة المجانية، والتساهل في إجراءات المغادرة والعودة إلى لبنان، والالتفات إلى هؤلاء النازحين حين يكون المطلوب تقديم الدعم الإغاثي والطبي لهم.

***

طحنت التجارب المرّة الفلسطينيين في مختلف أماكن شتاتهم، وأكسبتهم خبرات جمّة في التحمل والصبر والتطلّع إلى الأفضل. ولعل فلسطينيي سورية كانوا الأكثر استقرارًا قياسًا على بقية الفلسطينيين في البلدان المحيطة بفلسطين. وهذه المحنة الجديدة، ولا سيما إذا طال مداها كثيرًا، من شأنها أن تدمّر الأساس الاجتماعي المتماسك للفلسطينيين في سورية، بعدما دُمّرت مخيّمات درعا والرمل والنيرب واليرموك وفلسطين، وبعد التهديدات المتمادية لمخيّمات أخرى مثل خان الشيح الذي ربّما يلحق بأمثاله من المخيّمات. وحيال هذه المخاطر الداهمة لا يجد الفلسطينيون غير منظمة التحرير الفلسطينية ليلتجئوا إليها علّها تقيهم كأس التشرد ثانية. إنها الاستغاثة الأخيرة قبل حلول النكبة الثالثة.