إن بناء الشخصية يحتاج من الشخص نفسه (الاعتراف) أولا بحاجته لأمر ما، فكرة أو نشاط أوتغيير أو تعبير...الخ، ما يشعل (الرغبة) لديه للبحث أو السعي (للمعرفة) ومن ثم (بناء) ذاته بحريته بارادته المنبثقة من رغبته المسبقة ، وعليه فأن قدرتنا (كأشخاص في مواقع المسؤولية) على التأثير في الشخص الممثل لبيئة استهدافنا في أساسها إن لم تكن مرتبطة بالقدوة أو النموذج أولا أو الحدث الإبداعي والمبهر ثانيا أو النشاط الجامع ثالثا والملبي (للاحتياجات أوالرغبات أوالاهتمامات...) أورابعا الفكرة النافذة، أو خامسا عبر تأصيل مستوى التواصل بشكل غير منقطع ميدانيا وفضائيا، فإننا نكون في البدايات، هذا ان لم نكن في المرحلة التي تسبق الوعي.

إن عملية البناء للشخصية في مرحلة ما بعد النمو أي في المرحلة الجامعية تحديدا لا يمكن ان تأتي بقرار خارجي غالبا، وإنما محركها الرئيس قرار داخلي في الشخص نفسه ومحرك قراره هذا من ذاته (المتأثرة) بالمحيط . لذا فان قدرتنا (كقادة أو مسؤولين أو تنظيمات سياسية أو اجتماعية أو حتى أشخاص أصحاب رسالة نبغي الخير للآخرين.....) على أن نكون من "أدوات" التأثير في الشخص هي بمقدار ما نستطيع أن نكون أحد عوامل التأثير (في محيطه) ، أو ببساطة أن نكون أمامه لا خلفه بالفكرة أو العمل أو النموذج.

كيف نكون أمام الشخص (تحت ناظريه) وليس خلف مقلتيه أو عقله يحتاج منا ذلك أن نسلك سبيلا غير معبد، سبيلا شاقا، وربما طويلا ، لأن عوامل التشتيت والإلهاء من جهة إضافة إلى قائمة الأولويات الحديثة لدى الإنسان العصري تعددت الى الدرجة التي لا يستطيع (أو لا يريد بموجبها) أن يضعنا في قائمة أولوياته.

وإن استطعنا ان نكون في ذيل قائمة أولوياته فهذه بداية الطريق، إذ من المفترض كمنظمين وأصحاب فكرة أو رسالة أننا نتمكن من التمدد أو الصعود درجة درجة لنكون في رأس القائمة، وبالتالي نصبح في دوائر اهتماماته أو محيطه. إن سعينا للتأثير في الآخرين يجب أن يكون من منظور أننا نضع أنفسنا تحت نعال الناس، فنحن في خدمتهم ما احتاجوا لنا، وليس العكس، لأن أصل الخلق والاستخلاف عبادة الله عز وجل منزها، وخدمة عباده بإعمار الأرض بالناس الأحرار.

إن المشكلة الكبرى ليست في الناس أو القيادات الشابة أبدا كنموذج، وإنما في قيادات المؤسسة أو المنظمة (أي منظمة أو جماعة أو مؤسسة...) تلك التي ترغب بالوصول لأشخاص ومنهم في نموذجنا هنا الطلاب أو القيادات الشابة، في ظل فهمها أو ضرورة فهما لمتغيرات العصر وأهمية التواصل والحوار والمشاركة، وكيفية التموضع في دوائر اهتمام وقائمة أولويات وفي محيط الشخص أو الطالب، وعليه فان آلية التمكن من التموضع هذه تعتبر حجر الزاوية في عملية البناء.

لنعد الى البدايات، فهل نستطيع استنادا لمجد سابق أو تاريخ عريق أو إنجازات مضت وانقضت أوبالاتكاء على تراث شخصيات خالدة أو بالاستناد الى كلمات مكررة أو عبارات مسجوعة أو اقتباسات تحريضية أو تنفيرية (من المخالف) أن ننفذ لعقول الشباب؟!

أم هل نستطيع بالاستخدام السيئ للقرآن الكريم أو الدين عامة أو بسحب سوط التكفير أو التجهيل (اتهام الآخر بالجهل وعدم الفهم....والشتائم) أو بأسلوب التخوين أن نضرب به وجه المخالفين طرّا ، أو المتأتئين، هل نستطيع بكل هذه الوسائل أو بعض منها ان نؤثر أو نربي أجيالا حرة ذات غد تقدمي؟!

إنهم في ظل هكذا أساليب تهيئة وجذب واستقطاب إن استطعنا النفاذ لقلوبهم وعقولهم وهذا جائز نكون قد ارتكبنا حماقة بحقهم لأننا صنعنا عن سبق اصرار وترصد جيل المنقبضين أو المرعوبين أو ببساطة اجيال العبيد؟!

إن بناء جيل من الأحرار يحتاج منا القفز بعيدا عن مربع الصواب الأوحد والحقيقة الكاملة والنور الغامر الذي لا ينكشف إلا من بين أيدينا، وكأننا لا ننطق عن الهوى... للنظر بحكمة في واحدة من 5 أمور قد تضعنا كمؤسسة أو منظمة أو أشخاص نمتلك رؤية أو رسالة ضمن أولويات هذا الشخص أو الطالب أوالقائد الذي نبغيه أن يكون (أوالانسان عامة بأي قدرة يمتلكها).

نستطيع أن نخدم الناس أو ندعمهم ، ونستطيع بالخدمة أن نؤثر فيهم أو نضع أنفسنا تحت الطلب عندهم -في ظني- ضمن سياق الأساليب التالية:

1.الإبهار والإبداع: إن الحدث أو الفعل المبهر اليوم أو الحدث المتجدد أو المبدع أو الحدث (المشروع والمهدف و المخطط له) لاستنفار الطاقات بما يؤثر بالناس ويحقق من مطالبهم أورغباتهم أو آمالهم.... قد يجلب لنا مجموعة من الناس يتقارب اهتمامها مع مضمون هذا الحدث الذي نصنعه أو نسهم في صنعه (سياسي/ اجتماعي/ فني/ اقتصادي...) ما يشعل فيها الرغبة ، وهذه بحد ذاتها بداية الطريق، وقد يجعلنا على مسافة قريبة من القادة الشباب صناع الحدث.

2.النشاط الجامع (المشاركة): في العلم فان ما يختزنه أو يتمثله الإنسان من معلومات بصرية أوسمعية لا يضاهي أبدا ذاك المرتبط (بمشاركته) في الحدث صنعا بأي نسبة كانت ، وعليه فان قيامه بالنشاط أو مشاركته به أو بأي جزء منه يضع في عقله مجموعة من الخبرات هي ما يجب ان نجتهد لنكون من ضمنها.

لماذا تنجح المظاهرات والاعتصامات والنشاطات الجماهيرية ولا تنجح غيرها؟ أليس الهدف والحاجة رابطاً مشتركاً، وأليس شعور الناس "بالمشاركة" في موضوع يخصهم ويهمهم ويتوقون له عاملاً أساسياً، وأليس الشعور بالتلاحم بينهم وبين القيادة عاملاً محفزاً؟

3.القدوة أو النموذج: إن تأثر  الناس بكثير من  القادة أو الفقهاء أوالدعاة والحكماء أوالإعلاميين والمفكرين والسياسيين كما هم على شاشات الرائي (=التلفزة) أو على صفحات التواصل الاجتماعي وارد، كما هو التأثر بالمطربين والمطربات والممثلين والممثلات وغيرهم، ولكن سيرتهم وحقيقة ما يتعلق بحياتهم هي ما يدفع بهم أن يكونوا في مساحات اهتمام الشخص أو خارج الحلبة، ما يبرز أهمية (القدوة) أو النموذج، لاسيما بأن تكون بين الناس (على الأرض وفي الفضاء) وأن يشعروا ويحسوا بذلك، فيقدرونه ويسعون للوصول له.

4. الفكرة النافذة: أي تلك الفكرة التي تفتح نافذة، وهي بذاتها نافذة مؤثرة وملهمة في إدراكات الشخص، فلكي تنفذ الى روحه أو قلبه وتحتل موقعا فيه فتسجلك على قائمة أولوياته يجب أن يحس بها أو يقتنع بها أو تصيب حاجة من حاجاته أو يستمتع بها، أو علينا أن نجهد أنفسنا لتوضيحها وشرحها أو نشركه في اعادة تشكيلها ورسمها.

لنتأمل معا كيف استطاع الرسول محمد عليه أفضل الصلاة والسلام أن يلهم المسلمين في معركة الخندق ويرفع من قدراتهم ونشاطهم الذهني وفتح نوافذ في عقولهم بما أخبرهم به عن شكل النصر القادم رغم صعوبة الظرف السلبي الواقع، وكيف استطاع فتح الله كولن في تركيا أن يصنع مؤسسة تطوعية ربطت بين فكرة حب الله وحب الوالدين والتخلص من الجهل، وكيف استطاع ياسر عرفات أن يلهم شعبه وهو في أقصى حالات الحصار في بيروت ثم رام الله ما جعل المقاومة تجري في دمائهم....

5.تأصيل مستويات التواصل: والتأصيل يكون أفقيا وعموديا (أفقيا أي بين الزملاء بنفس المستوى الاداري /التنظيمي/ القيادي، وعموديا بين كل مسؤول وأعضاء الفريق المسؤول عنه، وما دون من أطر أو لجان) وميدانيا وفضائيا معا.

لا شركة بلا تواصل ولا مؤسسة بلا تواصل ولا جماعة (أي جماعة) تنمو بلا تواصل بين أعضائها ، بل إن مصير الجماعات التي تفقد التواصل لغة واحدة وتفقده في الأطر الجامعة وعدم انتظام الاجتماعات وفي بروز الأنانية والفوقية وفكر اقصاء الآخر، مصيرها هو التآكل والانهاك والدمار.

يقول ستيف جوبز مخترع الأجهزة الحديثة (الآيفون وأخواته في شركة أبل) في رد على سؤال كم لجنة لديه (أن لا لجان عمل في شركته) العملاقة، ما يعني لنا توفر 5 عوامل: أن هناك جهدا موزعا بوضوح، ومهمات محددة لكل مسؤول في قسمه، وصلاحيات معرّفة بدقة، ونتيجة متوقعة، أو محسوب لها بمقياس وزمن ، وتواصل مرتبط "بالثقة" كما قال هو ، باعتبارها في ظني عامل الربط الاتصالي بينهم، ما يشي بالتزام واضح بالمسار والمهمة والهدف،وقال ستيف جوبز (أن جميع المسؤولين يجتمعون معه مرة أسبوعيا) وفي تواصل لا ينقطع أبدا بينهم وبين العاملين معهم، (وبينه هو وبين الناس خلال الأسبوع).

أن بناء الشخصيات والتعامل مع الأحرار وخدمة الناس والتأثير اللطيف بهم، وجعلهم يضعوننا -كتنظيمات أو أصحاب فكرة- على بداية السلم في أولوياتهم يعني التواصل معهم يوميا بلا كلل أوتأفف، وبلا ضيق أو تكلف، وبشغف الانجاز و"التلطف" و"الصفح الجميل"، وذلك  في آلية بناء رسالة مشتركة من المهم أن يتقاسمها المشاركون في نفس الجماعة يوميا،.

فهذه الأيام حيث الفضاء أصبح مفتوحا، بات لا يعول على الأوامر الصارمة والصيغ الجامدة، أو على "خذ مني ولا تسمع من غيري" ضمن نظرية الصواب المطلق أو الحصري كما أسلفنا، ولا على قولنا المناقض للفعل ، ولا على فعلنا الرتيب غير المبدع والملهم، ولا على الجلسات والاجتماعات المتقطعة أو الموسمية فالكم الهائل من المؤثرات والكم الهائل من الرسائل التي تصل الانسان اليوم وفيها ما فيها من مؤثرات قد تطغى وتكبر وتسود فنجد أنفسنا قد دفعنا بارادتنا الى ذيل أولويات الشخص بعملنا وقولنا وربما دون أن ندري، فنتفاجأ حين الامتحان بالصفر الكبير.