ثمة علاقة جدلية بين الفكرة التي غدت مشروعاً وطنياً والمفاهيم التنظيمية وانعكاساتها النظرية والممارسة، وبما أن الفكرة التي تجسدت ثوابت ومسلمات دليل عمل بانتقالها من مرحلة إلى أخرى حسب طبيعة كل مرحلة، وقدرة هذه الفكرة أن تعكس طبيعة المشروع وأولوياته وأجندته السياسية وأسلوب عمله، على هذه القاعدة كان فكر التنظيم الثوري والوطني رافضاً التحجر والتكلس أو التجمد في قوالب معينة وتماهى انسجاماً مع المتغيرات مقاربة بين الحقائق والوقائع، المدلولات والمندرجات.

كان للطليعة الوطنية الفلسطينية الدور الأساسي والاستثنائي في بلورة الفكرة وإنضاجها وتحمل مسؤوليات تسويقها كبضاعة جديدة تختلف تركيبتها حيث الظروف الذاتية والموضوعية وتداعياتهما على صناعة جديدة لا تحتاج إلى وسيط يحدد العلاقات والكمية ويخضع للرقابة الأدوات والوسائل،  كما يحدد السعر ويحتكر السوق حسب ظروف المصالح، وبمعنى آخر وضع اليد على الفكرة وجعلها مسألة فنية أو تكتيكية تؤدي الغرض المطلوب في أجندة العرض والطلب وإغفال اليد العاملة وحقوقها. ولقد أثبتت الفكرة تجذرها وطاقاتها المذهلة ومنافستها من حيث الجودة وصناعة وطنية بامتياز.

الفكرة والنظرية

تسلحت الفكرة لحركة فتح بتحليل علمي وموضوعي واعتمدت منهاجاً واقعياً غير مصطنع تتبلور على ضوء التجربة النضالية وتتكامل مع معطيات الممارسة وازدياد النضج والمعرفة واستيعاب التطور النضالي وأساليبه وانتقالها إلى دليل عمل على الطريق الصحيح، بحيث يكون الواقع حاضناً للفكرة وصموداً، شروط المرحلة. في السياق التاريخي تحولت الفكرة إلى برنامج نضالي وطني موحد التنظيم والإرادة والممارسة، يعبّر عن تطلعات الشعب الفلسطيني وأمانيه، وينسجم بتحليله مع الواقع التاريخي وطبيعة الظروف ذاتياً وموضوعياً، وحددت بموضوعية مسألة الانتماء بما أنه الرصيد الحقيقي للمناضل حيث تتحدد مسألة العلاقة بين التنظيم والمناضل، وجعلت الإطار التنظيمي دائرة مفتوحة غير مغلقة تتسع للجميع دون فرز طبقي أو فكري، لأن القاعدة الأساس هي التناقض مع الاحتلال والمبدأ الأول إنهاء الاحتلال وتحرير الأرض وانجاز الاستقلال وتجسيد الهوية الوطنية على قاعدة مادية تكرسها بفعل تراكم النضال اليومي في سياق وسيرورة الفعل التصاعدي للانجازات والمكتسبات التي تحققها بانتقالها من فكرة وبرنامج إلى مشروع وطني له ثوابته ومحدداته، من مسألة الإلغاء والبدائل إلى قوة الحضور والاعتراف بالشخصية الوطنية الفلسطينية، أرضاً وشعباً وهوية.

شكلت المسألة التنظيمية الأساس في وضع النظرية للتنظيم كشرط ضروري للبناء وتحديد العلاقات الداخلية وللدلالة على طبيعة التنظيم والتي تصوغ أيضاً الحركة الداخلية في الجسد الواحد والعلاقة مع الجماهير في مندرجات الإستراتيجية للتكتيك في كل محطة نضالية، وقد عبرت فتح عن قماشتها بأنها حركة وطنية ثورية. تفتح نوافذها لمجموع الشعب بكل فئاته انتماءً وطنياً فرضتها خصوصية الصراع حيث التناقض الرئيس بين فكرتين تتناقضان بالشكل والمضمون، الأولى الإيمان المطلق بالقضية الفلسطينية والاستعداد الكامل للتضحية والنضال حتى النصر  وإنجاز التحرر الوطني من احتلال استيطاني ذي وظيفة استعمارية يكون مقدمة لعولمة الإلغاء التاريخي لمكونات المجتمعات البشرية استبدالاً وإقصاءً وتزييف التاريخ بالقوة، من هناك كان الفهم الموضوعي لطبيعة لصراع والعلاقة الجدلية بين النظرية الثورية للمفاهيم والمنطلقات والفكر السياسي الجديد وانعكاس ذلك على طبيعة التنظيم وبنيويته رافضاً القوالب الجامدة ويثبت قدرته في عملية الاستقطاب المستعدة للنضال وعبّر عن هويته النضالية باحتضان الجماهير له مؤكداً أنها صاحبة المصلحة الحقيقية وهي التي تصنع التاريخ وهي التي انصهرت في بوتقة الانتماء الثوري وليس الانتماء الطبيعي متماهية بين إيمانها المطلق وممارسة دورها التاريخي وبين ماهيته الوطنية والثورية.

النظرية الثورية

قدمت حركة فتح نفسها بأنها تنظيم الجماهير الذي يعبر عن إرادة الشعب الفلسطيني وتطلعاته، وهي التي تتحمل المسؤولية التاريخية برفض الواقع من جعل القضية الفلسطيني شماعة للتناقضات العربية وإيديولوجياتها المتحاربة وتسكين الحركة الوطنية في شعارات نظرية لها بريقها ولكنها تفقد جوهرها بخداع الجماهير بعيداً عن أولويات الصراع والتناقض الرئيس الذي يشكل مصدر الأزمات السياسية والاقتصادية والتخلف على قاعدة الكيان المصطنع خطر على مستقبل الجماهير العربية ومصالحها  بالحرية والديمقراطية والاستقلال الوطني ونحو مجتمع موّحد تسوده العدالة والمساواة وصنع التحولات التاريخية والنقلة النوعية تستجيب لحاجات التطور والتطوير تتحقق من خلاله أهداف الجماهير بالتحرر وبناء المجتمع الجديد. لذلك اعتبرت حركة فتح أن النظرية الثورية لازمة وضرورية للبناء الثوري، وانطلقت عن وعي وإدراك بأن أهم شروط البناء وجود الطليعة المنظمة انضباطاً والتزاماً وشروط البناء الثوري لا بد وأن تتوفر له مسوغات الاستقطاب الصحيح مستفيدة من تجربة الحركة الوطنية الفلسطينية بكل مراحلها وإخفاقاتها بغياب التنظيم الثوري الذي يقود الثورة على قاعدة التحليل الموضوعي والبناء القادر على انجاز أهداف الجماهير وطموحاتها. ونيل الحرية والاستقلال والخلاص الوطني.

استندت النظرية الثورية إلى شروطها العلمية بما أن الثورة هي مجموعة التحولات المركبة التي تؤدي إلى تغير الواقع في مسار القضية الفلسطينية وطموحات الشعب الفلسطيني، وأن تكون حركة فتح التنظيم الثوري الجديد الذي يعبّر فعلاً عن إرادة الشعب وطليعته التي تقود نضاله الوطني. على هذه الخلفية وضعت حركة فتح شروط نظريتها الثورية للبناء التنظيمي السليم.

1- الفكر السياسي- (الإستراتيجية)

2- التنظيم الجماعي

3- الطليعة الثورية

4- المركزية الديمقراطية

5- الانتماء الوطني والالتزام

 

1- الفكر السياسي

قدمت حركة فتح نفسها بأنها حركة وطنية ثورية، كما أن الثورة هي للشعب بكل فئاته، وأن القضية الأساس الخلاص الوطني واستعادة فلسطين على الخارطة السياسية كقضية تحرر وطني بامتياز، وبمعنى آخر انتزاع الهوية الوطنية والكيانية التي غيبّت وكادت أن تهضمها المصالح والاستراتيجيات المختلفة وتناحر الايدولوجيات على مختلف مشاربها واستعمالها شماعة للمزايدات بين الهم القطري والنضال الطبقي والأهداف القومية.

تسليح الفكر السياسي الجديد لحركة فتح بمنظومة مفاهيم شكلت قاعدة صلبة لمسيرتها الوطنية أن تكون دليلاً ومرشداً في مراحل النضال بتكامل النضال الثوري الذاتي مع القومي الموضوعي الذي يستجيب للمصالح المشتركة بدءا من استعادة القرار الفلسطيني المستقل والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني وعدم التدخل بالشؤون الداخلية العربية ورفض التدخل بالشأن الفلسطيني.

2- التنظيم الجماهيري

كان من سمات النضال الفلسطيني ارتباطه بحركته الثورية الجديدة المعبرة عن تطلعاته وطموحاته وأهدافه، وأن النضال الفلسطيني هو تاريخه المقاوم منذ مائة عام ضد الاستعمار البريطاني والهجرة الصهيونية إلى فلسطين، وبما أن الشعب الفلسطيني هو الذي يصنع تاريخه فلا بد أن يكون الإدارة والهدف وانصهار الكل في الدائرة الواحدة حيث محددات الصراع الوطني ضد الاحتلال وليس صراعاً طبقياً، واكتسبت فتح صفتها الثورية بامتزاج الطيف الجامع بألوانه تحت راية واحدة وفكر موحد حدد أهدافه بالخلاص الوطني والتحرر من الاحتلال الإسرائيلي لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وحق العودة، وظل متمسكاً بثوابته الوطنية كمظلة فكرية وحامياً لمشروعه الوطني.

اعتبرت حركة فتح أن القاعدة الجماهيرية مبدأ هام ومفهوم وطني وثوري يجب أن يتجسد كقاعدة عريضة جماهيرية تعطي فيه القوى الوطنية الفلسطينية دورها في مسيرة النضال والعملية الثورية، بما أن هذه الجماهير هي قاعدته وركيزته الأولى، وبدون هذه الجماهير لا تكون ثورة حقيقية وان العمل الفدائي كالسمكة التي تحتاج إلى الماء، لقد شكلت القاعدة الجماهيرية المدخل الأساس لحماية الانطلاقة الثورية واحتضانها، وعلى هذه الخلفية ولكي تكتب حركة فتح صفتها الثورية لعب التنظيم الشعبي دوره النضالي بإنشاء الاتحادات الشعبية وتشكيل اللجان الشعبية في المخيمات الفلسطينية وبناء المؤسسات التربوية والصحية والرياضية والثقافية على قاعدة المشاركة الشعبية وممارسة الديمقراطية مما أسهم في رفع المستوى الاجتماعي والاقتصادي ومن جهة ثانية إنضاج الوعي السياسي والمشاركة الشعبية والواسعة وقد تجلى ذلك بانتشار المطبوعات والدوريات الإعلامية والمراكز المختلفة للأبحاث والدراسات والإصدارات المختلفة، أو المستوى المعيشي للإنسان الفلسطيني تعبيراً عن إرادة حرة واثبات قدراته في تحقيق النقلة النوعية بعيداً عن الإهمال والتهميش وإمكانياته بخلق اقتصاد وطني يؤمن فرص العمل والحياة الكريمة لليد العاملة الفلسطينية.

3- الطليعة الثورية

مفهوم الطليعة الثورية فرض وجود الرواد الأوائل أو كما تسمى الخلية الأولى لحركة فتح الملتزمة والمرتبطة مصيرياً بالقضية الفلسطينية، والتي تماهت وانسجمت في خط نضالها فكراً وممارسة، وقد عبرت في كل مراحل النضال عن وحدة الفكرة والتنظيم والممارسة، تلك الطبيعة التي تفاعلت مع شعبها تمارس التكتيك السياسي الذي يخدم الإستراتيجية حيث أنها بممارساتها برهنت أنها تملك ثقافة ثورية مكنتها من تحليل الواقع الفلسطيني والعربي والدولي وفي كل مرة كانت المصلحة الوطنية العليا هي الأساس للقرار السياسي.

تحت مجهر النكبة الفلسطينية ومأساتها، شعب هجّر من أرض وطنه بالقوة والإرهاب المنظم تحت سمع وأبصار العالم، مخيمات تحمل ذاكرتها فصول الظلم والقهر والحرمان وتدحض مقولة أرض بلا شعب، وحيت التقيت مصالح الاستعمار بخرائط سايكس- بيكو ووعد بلفور كان الضحية الشعب الفلسطيني، وكان الانتظار والمراهنة على الموقف الرسمي العربي ردحاً من الزمن، كانت الطليعة الفلسطينية أو الخلية الأولى تحضر نفسها، حافزها الانتماء الوطني، وتدفع بها شحنات الولاء للوطن وتغيير صورة الطوابير الطويلة للاجئين الفلسطينيين إلى صفوف من المناضلين نحو الحرية والعودة واستعادة فلسطين على تضاريس الجغرافيا السياسية.

4- المركزية الديمقراطية

التنظيم الثوري الوطني هو الذي يحدد مسألة العلاقة بين الانتماء الفكري والتنظيمي والممارسة. حيث يعبّر الكل عن هوية التنظيم وأنه المدافع عن مصالح الشعب، ولكي يكون التنظيم ثورياً تفرض الضرورة أن تتطابق رؤيته وأهدافه مع بنيويته التنظيمية، وبما يحقق الانسجام الداخلي بين فكره السياسي وممارسته النضالية ومهماته الوطنية. حركة فتح هي أم الصبي، والمؤتمنة على أهداف الشعب الفلسطيني، وحاضنة سجله النضالي، وكانت تعي تماماً مسألة البناء التنظيمي وشروط المبادئ الأساسية للتنظيم الثوري. إن مبدأ المركزية الديمقراطية هو الركيزة الرابعة في مسألة البناء حيث مركزية التخطيط والتوجيه والمتابعة والمراقبة، وحرية الرأي والمناقشة والاختيار ضمن الأطر التنظيمية. وقد كرس المؤتمر السادس لحركة فتح بأنها التيار الديمقراطي في الساحة الفلسطينية. وتعني الديمقراطية مفهوم الحرية بكل أبعاده النضالية، والمركزية تجسيداً لمفهوم الثورية.

لقد ضاعت المركزية الديمقراطية في التنظيم حركة العلاقات الداخلية من الأعلى إلى الأسفل وبالعكس والعلاقة بين التنظيم والجماهير، كل ذلك على قاعدة أن الفكر الجديد الذي جاءت به فتح يتحمل مسؤولية تاريخية وتركه يحتاج إلى الإرادة الوطنية لاجتياح الصعاب والعراقيل والمعيقات، وكيفية التخلص من كل الإسقاطات القائمة التي خلقت أوضاعاً كادت أن تبعثر الهوية الفلسطينية سياسياً وثقافياً واجتماعياً في بيئات متناقضة وطقوس مختلفة كان فيها الإنسان يفقد هويته وأوراقه الثبوتية.

5- الانتماء الوطني والالتزام

حددت حركة فتح مسألة الانتماء أهمية كبيرة على الصعيدين الفكري والتنظيمي، وكذلك على صعيد الممارسات داخلياً وبين الجماهير، وحيث يكون المناضل مرآة التنظيم وصورته، وهو يحمل بذرة المفاهيم الجديدة وأداة خلق الوعي الوطني المنظم للانتقال من مرحلة اللا مبالاة إلى مرحلة الانتماء الثوري بتحديد ماهية الصراع والتناقضات القائمة والأولويات، ويرفض التضليل الفكري أو الضياع بشعارات متناحرة بعيدة عن الهدف الأساسي أداةً وأسلوباً، وبما أن هوية التنظيم (الوطنية) ثم تحديد شكل الانتماء للمناضلين وكان المقياس الإيمان المطلق بالقضية الفلسطينية وأهداف حركة فتح والاستعداد الكامل للتضحية والنضال، والالتزام ببرنامج التنظيم ومشروعه الوطني والدفاع عنه، والتقيد بقرارات التنظيم وأنظمته والقانون الأساسي (النظام الداخلي).

لقد أكدت حركة فتح في مسألة البناء التنظيمي شروط العملية الثورية للبناء التنظيمي وأحدى ركائزه الانتماء الوطني والالتزام.

حركة فتح وطنية وهي حركة التاريخ الفلسطيني المعاصر، وهي تجسيد لنضال الشعب الفلسطيني وتاريخه وأداته الوطنية نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وحق العودة