بقـلم/ صقر أبو فخر

في تشرين الأول 2012 نظمت وزارة الدفاع الاسرائيلية مؤتمراً في الناصرة العليا (نتسيرت عيليت) لترويج فكرة الخدمة العسكرية بين الشبان المسيحيين، وشارك في ذلك المؤتمر  اثنان من رجال الدين "المسيحيين" هما الأب جبرائيل نداف (أرثوذوكس) والأب مسعود أبو حاطوم (كاثوليك). ثم بدأت حملة مكثفة لهذه الغاية أشرف عليها "منتدى تجنيد الشبان المسيحيين في الجيش الاسرائيلي" الذي أعلن عن ظهوره في آب 2012. وفي صيف 2013 أطلق بنيامين نتنياهو، في السياق نفسه، حملة لتجنيد المسيحيين في الجيش أو في "الخدمة الوطنية". وفي شباط 2014 عرضت المؤسسة العسكرية فكرة تجنيد المسيحيين الفلسطينيين أسوة بالدروز والبدو الشركس. وقد نضجت هذه الحملة في سنة 2014، فتقدم النائب الاسرائيلي ياريف ليفين (ليكود) بمشروع قانون إلى الكنيست الذي ما لبث أن أصدره كقانون في 22/4/2014. وقد نص القانون الجديد على تجنيد الشبان المسيحيين في الجيش الاسرائيلي على أن يكون هذا الأمر طوعياً، وبحسب رغبة هؤلاء الشبان الذين ستصلهم استدعاءات للخدمة.

رفض الفلسطينيون المسيحيون هذا القانون بشدة، وأعلن رؤساء الكنائس المسيحية في القدس أي محاولة لتجنيد أبنائهم الشبان، وأصدروا في 13/5/2014 بياناً في هذا الشأن وقعه بطريرك الارثوذكس ثيوفيلوس، وبطريرك اللاتين فؤاد طوَّال، وبطريرك الأرمن الأرثوذوكس نورهان مانوغيان، ورئيس حراسة الأراضي المقدسة الاب بيار باتيستا بيتسابالا، وجُرِّد الأب جبرائيل نداف من صلاحياته الكهنوتية. وكان لافتاً أن في الوقت الذي كان الأب جبرائيل نداف منهمكاً في الدعوة إلى تجنيد الشبان الفلسطينيين المسيحيين، تصاعدت عملية تهديد رجال الدين المسيحيين التي يقوم بها يهود متطرفون، وتزايدت كتابة شعارات عنصرية على جُدُر الكنائس.

* * *

إن هذا القانون الجديد خطير جداً، ويتخطى خطره منطوق الكلام الوارد فيه ليطاول مستقبل المسيحيين الفلسطينيين في داخل الخط الأخضر (أراضي 1948). وثمة مشروع قانون آخر أمام الكنيست يعرِّف الفلسطينيين المسيحيين (في بند القومية) على أنهم "مسيحيون" بدلاً من "عرب" كما هو جارٍ اليوم. والمقصود هو شرذمة المجتمع العربي في فلسطين، وتحويله إلى مجموعات طائفية متنافرة، مع العلم أن الفلسطينيين العرب هم القومية الأصلية الوحيدة التي كانت أكثرية وصارت أقلية جراء الاحتلال والإحلال. وهذا القانون ينزع الصفة القومية عن الفلسطينيين المسيحيين ويحولهم إلى طائفة، الأمر الذي يسهل تمرير فكرة "يهودية الدولة الاسرائيلية". وقد استفادت اسرائيل من الاضطهاد الذي يتعرض له المسيحيون في العراق وسورية ومصر لترويج مشروعها، مثلما استفادت من الاضطهاد الذي تعرض له الدروز في سورية سنة 1954 في عهد أديب الشيشكلي لتمرير قانون الخدمة العسكرية للشبان الدروز في سنة 1956، وهي فرصة نادرة كي تدعي اسرائيل اليوم أنها المكان الوحيد في هذا المشرق الذي يعيش فيه المسيحيون والدروز في أمن وأمان.

* * *

المسيحيون هم سكان فلسطين الأصليون قبل الفتح العربي، وليسوا جالية أجنبية استوطنت فلسطين في زمن ما. وفلسطين نفسها هي أرض المسيحية الأولى، وهي التي أهدت البشرية كلها نوراً كونياً سطع أولاً في الجليل الفلسطيني، ثم تجسد في بيت لحم، ودرج على دروب القدس حيث قاسى جلجلته وأيامه الأخيرة. والفلسطينيون المسيحيون في فلسطين المحتلة هم جزء أساسي من المسيحيين العرب، غير أن تجربتهم تختلف، في بعض وجوهها، عن تجربة بقية المسيحيين العرب، فهم لم يعيشوا، منذ زوال العهد العثماني، في دولة ذات أغلبية اسلامية، وإنما عاشوا تحت سلطة الاستعمار البريطاني، ثم، منذ سنة 1948 فصاعداً، صاروا مواطنين من الدرجة الثانية في دولة ذات أغلبية يهودية مهاجرة. وبهذا المعنى، فإن لهوية الفلسطينيين المسيحيين ثلاثة مكونات: المكون العربي (قومياً)، والمكون الفلسطيني (تاريخياً)، والمكون المسيحي (دينياً). ثم أن فلسطين لدى المسيحيين ليست مجرد موطن فحسب، بل هي الأرض المقدسة (تيرا سانطا) التي لا يعدلها في القداسة أي مكان آخر، لذلك تشبثوا بالبقاء فيها في الأحوال المتقلبة. لنتذكر أن الفلسطينيين المسيحيين خسروا في سنة 1948 نحو 50% من منازلهم في القدس الغربية كلها. وعلى أراضي الكنيسة الارثوذكسية في القدس الغربية شيد الاسرائيليون مبنى الكنيست ومقر رئاسة الحكومة ومكاتب رئاسة الدولة والمحكمة العليا وغير ذلك. وفي سنة 1967 صادرت اسرائيل 30% من أراضي المسيحيين في القدس الشرقية.

المعروف ان في سنة 1922، أي في السنة التي صدر فيها صك الانتداب، كان في فلسطين 196 ديراً وكنيسة لم يبقَ منها حتى سنة 1993، أي في السنة التي جرى فيها توقيع اتفاق أوسلو، غير 48 كنيسة و 47 ديراً؛ فقد جرى تدمير معظم هذه المواقع في سنة 1948 مثل كنيسة قرية البصّة وكنيسة قرية الشجرة. والمشهور ان المسيحيين في فلسطين ساهموا بفاعلية كبيرة في النضال الوطني، وقدموا تضحيات مشهودة في هذا السبيل. ومثال لذلك، فإن ثلاثة من أهم مساعدي الحاج امين الحسيني كانوا مسيحيين هم: إميل الغوري وعزة طنوس وعيسى نخلة. وكان ألفرد روك نائباً لرئيس الحزب العربي الفلسطيني المؤيد للحاج أمين. ومن أعضاء اللجنة التنفيذية لهذا الحزب كل من يوسف صهيون وحنا خليف وإميل الغوري. ومن الأعضاء البارزين في الحزب: اسكندر حبش وبترو طرزي ونقولا شاهين واسكندر الخوري وصبري خلف وفؤاد عطا الله وحنا البطارسة وميشال عازر ويعقوب برتقش. وتولى ميشال متري رئاسة جمعية العمال العرب الفلسطينية. وبرز الأب ابراهيم عياد في النضال الوطني ضد الصهيونيين، واتهم بتدبير اغتيال الملك عبد الله بن الحسين في القدس.

* * *

مَن يحمي الفلسطينيين المسيحيين من هذا العبث بهويتهم وبحضورهم التاريخي في الأرض المقدسة؟ لا أحد يحميهم إلا هم أنفسهم وبقية إخوانهم الفلسطينيين في جميع أرجاء فلسطين التاريخية. ومهما تكن المصاعب كبيرة وإغراءات الهجرة كثيرة، فلا خيار غير التشبث بالأرض والبقاء فيها. لنتذكر أيضاً أن نسبة المسيحيين في فلسطين إلى مجموع السكان كانت، في سنة 1890، نحو  13%. لكن، مع بداية الانتداب البريطاني في سنة 1917 هبطت إلى 9,6%. وفي سنة 1931 صارت 8,8%. أما في سنة 2000 فقد بلغت نسبة المسيحيين في فلسطين قرابة 1,6% فقط، وفي سنة 2012 باتت هذه النسبة نحو 1%، وهذه حال مروِّعة؛ فعددهم اليوم لا يتجاوز 180 ألفاً، بينهم 130 ألفاً في "اسرائيل" و 50 ألفاً في الضفة والقطاع. وللمقارنة فقط، فقد كان عدد المسيحيين في سنة 1948 في الضفة الغربية وحدها 110 آلاف نسمة. ولو بقي هؤلاء في أرضهم لبلغوا نصف مليون نسمة في سنة 2012، لكنهم اليوم لا يتجاوزون الخمسين ألفاً فقط. وفوق ذلك، فقد كان عدد المسيحيين في القدس سنة 1947 نحو 27 ألفاً، ولو ظلوا في ديارهم لكان عددهم بلغ في سنة 2012 أكثر من 150 ألفاً، بينما لا يتجاوز عددهم اليوم خمسة عشر ألفاً.

* * *

في هذه الأجواء تأتي زيارة البابا فرنسيس إلى فلسطين لتنعش الذاكرة التاريخية للفلسطينيين المسيحيين، وتقوي موقعهم النضالي أمام التهديد الاسرائيلي لهويتهم العربية، وسيقول المسيحيون له: "ضع إصبعك على الجرح وتأكد من حقيقة وجودي"، ما يعزز مكانتهم العربية في مواجهة اسرائيل. كما ان وجود البطريرك بشارة الراعي برفقته، وهو بطريرك الموارنة في انطاكيا وسائر المشرق، سيدعم الخط الوطني الراسخ لدى مسيحيي فلسطين، وسيؤكد أمام الملأ ضرورة العودة إلى كفر برعم وإقرت وغيرها من الديار المهجورة. والمعروف أن عدد الموارنة في فلسطين يقارب العشرة آلاف ينتشرون في حيفا (3500) وفي الجش (2000) يتحدر معظمهم من قرية كفر برعم المارونية) وفي الناصرة (1500 شخص(.