الحاضرون دائمًا في زماننا، تشهد أرض الوطن على إخلاصهم وصدقهم في النضال وتضحياتهم لا يغيبون ولا يصيرون ذكرى، فهم متجددون دائمًا فينا، بأفكارنا، بأعمالنا، بالرؤى الخلاقة، بعطائنا، بأخلاقنا، وسلوكياتنا، وقيمنا الوطنية، وما قول رئيس الشعب الفلسطيني وقائد حركة تحرره الوطنية محمود عباس أبو مازن، بمناسبة استشهاد القائد الرمز الرئيس ياسر عرفات أبو عمار: "سنبقى على إرث ياسر عرفات ولن نحيد عنه، وسنبقى منغرسين في أرضنا وحقيقة الشعب الفلسطيني لا يقدر أحد على طمسها أو القفز عنها". فالإرث ليس مكسبًا ماديًا، وإنما فرصة لإعلاء سمة الوفاء للفكرة  والمبدأ والآمال والأهداف، وأدق معيار لقياس الإنسانية والوعي الوطني.

تحفظ الشعوب مكانة قادتها العظماء، وتبقى الأعمال دليلاً على نبل الأسماء، أما الأمر المدهش، أن شخصية القائد لا تتكون بقرار ولا تشكلها مؤسسة، وإنما تتبلور طبيعيًا تحت الضغوط الصعبة كتبلور الألماس، فالاسم التاريخي يتكون لمرة واحدة وإلى الأبد في ذاكرة الشعب والإنسانية، أما الوفاء فهو حافظها من الاندثار أو عوامل التحلل القسرية أي المحمولة على عربات الغزاة والطغاة.

انطلق ياسر عرفات مع إخوته في الخلية الأولى لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" مناضلاً فدائيًا، الذين أدوا قسم الإخلاص لفلسطين، فرآهم الشعب الفلسطيني، وكذلك شعوب الأمة العربية،  والأحرار في العالم، كمرآة نقية ترى فيها شرائح الشعب ضمائرها بأحسن وأجمل وأقوى وأمتن نسيج وطني.

كان الكثير يعتقدون أن الزمن يداهمهم من الاتجاه المعاكس، حتى أن البعض رأى فكرة وفعل التصدي لتغيير مسار الزمن، ليصبح موازيًا للزمن الفلسطيني الوطني مستحيلة وغير ممكنة، وذهب آخرون أبعد من ذلك بقولهم إن ما تفعله حركة "فتح" التي ينطق باسمها ياسر عرفات يعتبر تمردًا على الواقع، بعد أن غاب عن بالهم أن السمة الأولى للمناضل هي قدرته العقلانية على إحداث تغيير جذري على الواقع المرير المؤلم، وما كان لياسر عرفات على رأس الخلية الأولى لحركة التحرر الوطنية الفلسطينية أن ينجح لولا أنه ومن معه كانوا "عجينة إنسانية" من تراب الأرض وملحها، وماء سمائها وينابيعها، عجينة أفكار متجانسة، ومبادئ وقيم تحررية إنسانية تقدمية، ضبطتها مفاهيم وسلوكيات أخلاقية، بلورها الإيمان المطلق بالحق ولولا أن القدس قبلتهم الأولى الروحية والوطنية، ولولا أن الشعب الفلسطيني منحهم الثقة، بمثابة شهادة على "الصحة الوطنية" التي نالوها بامتياز.

قد تكون فلسطين في عداد الدول الصغيرة جدًا جغرافيًا، لكنها بحكم مكانتها المقدسة، وحركة تحرر الشعب الفلسطيني الوطنية، وحكمة وصبر وعقلانية أبو مازن الوفي لإرث أبو عمار، لباتت في نظر شعوب الأرض ودولها وحكوماتها وقواها الحرة، بمثابة القارة السابعة، التي منها يشرق السلام على العالم. وبات شعبنا بملايينه الأربعة عشر هو الرقم الأصعب بين الأمم، لأنه أسس لصناعة الحياة كما يجب أن تليق به، بكرامة وحرية واستقلال، مخيبًا آمال صُناع الموت الذين خططوا لإفنائه وطمس هويته وحقيقته التاريخية والحاضرة والمستقبلية.

ظل أبو عمار مناضلاً يرى وطنه بعين العشق الروحي، حتى رأى أحرار العالم فلسطين العظمى في خطابه، تعابيره وأفعاله، أعماله، وكوفيته وجنوحه نحو السلام.

في ذات المناسبة قبل سنوات خاطب الرئيس أبو مازن روح أخيه الشهيد ياسر عرفات: "أقول لك يا أخي أبا عمار اليوم بذكرى رحيلك، إن شعبنا الفلسطيني الذي لطالما أحبك قائدًا عظيمًا، ما زال يكن لك ذلك الحب والاحترام والوفاء، وهو صامد صابر ومرابط، باقٍ على أرضه، وراسخ رسوخ جبلك الذي لا تهزه الرياح" فالحب والاحترام والوفاء للقائد الرمز الشهيد ياسر عرفات يعني تعزيز الصمود والصبر والوحدة الوطنية، وإبقاء جذورنا العميقة في أرض وزمان الوطن "فلسطين" والإخلاص بالنضال حتى تحقيق الاستقلال والسيادة، ورفع علم فلسطين تحت قبة سماء عاصمتها الأبدية القدس، ليكتمل حلم أبو عمار.