على مدار أربعة أيام متواصلة، بدءاً من يوم الاثنين 19 آب/ أوغسطس، إنطلقت أعمال المؤتمر العام للحزب الديموقراطي في مدينة شيكاغو، لمناقشة من بين أمور أخرى الأجندة الانتخابية القادمة والمصادقة النهائية على تذكرة مرشحة الحزب كامالا هاريس لخوض الانتخابات الرئاسية المقررة يوم الخامس من تشرين الثاني نوفمبر القادم، لمواجهة المرشح الجمهوري المُكرر دونالد ترامب، وسط حالة من شبه الانقسام السائد بين جناحي الحزب الديموقراطي، على يسار الرئيس الحالي بايدن يقف تيار الليبراليون التقدميون والذي يطالب بوقف العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة فوراً واخضاع العلاقات بين واشنطن وإسرائيل إلى مزيدٍ من التدقيق، بينما يقف على يمينه التيار الداعم لإسرائيل وصناع بدعة حق الاحتلال في الدفاع عن النفس.

بين هذا الجناح ونقيضه، وظفت الكتلة الصلبة من قادة الحزب الديموقراطي وفي المقدمة منهم الرئيس الحالي بايدن والرؤساء السابقون باراك أوباما، وبيل كلينتن إلى جانب كل من ميشيل اوباما، ووزيرة الخارجية الامريكية ومرشحة الرئاسة سابقا هيلاري كلينتن، خطاباتهم ونفوذهم السياسي داخل الحزب الى جانب ممارسة تأثيرهم على المندوبين لتنقية الدم السيئ وإظهار وحدة الصف امام جمهور الناخبين. 
بالتوازي، ومن اجل سد الفجوات المُتسعة بين الجناحين داخل الحزب الديموقراطي، وارسال رسائل تطمينية الى الجناح الليبرالي داخل الحزب، كثفت الدبلوماسية الامريكية نشاطها، واعلن كبير الدبلوماسيين بلينكن عن رحلته التاسعة الى الشرق الاوسط حيث المحرقة المستمرة والتي مر عليها اكثر من 322 يوماً، حلّق خلالها بين اسرائيل والقاهرة وقطر بحثاً عن سلامٍ مفقود كان قد وصفه بايدن أنه يحتاج إلى معجزة لصناعته.
منذ اللحظة الأولى لوصول بلينكن إلى تل أبيب ولقاءه برئيس الوزراء نتنياهو وأركان حربه، عملت واشنطن وعبر دبلوماسييها وإعلامها الموجه على إشاعة أجواء إيجابية وأعلنت أن نتنياهو قد وافق على المبادرة الأميركية، لكن زعيم الدبلوماسية الأميركية تعمد إخفاء على ماذا وافق نتنياهو، ومع ذلك، واصل نشر الرذاذ الرطب في الأجواء، وأن المفاوضات قاب قوسين أو أدنى من التوقيع على اعلان وقف العدوان الإسرائيلي على غزة.
ما أعلنه محامي إسرائيل عن قبول نتنياهو لمبادرة الرئيس بايدن للتهدأة لم يكن دقيقاً، ومن السهل جدًا تشخيص هذا الاستنتاج من تصريحاته التي أعقبت إنتهاء جولته بين القاهرة والدوحة، قال بلينكن: أن على جميع الأطراف إبداء مرونة للبدء في تنفيذ اتفاق وقف العدوان، وتحدث عن الاقتراح والجهود المبذولة لتضييق الفجوات، وأعلن أن «إسرائيل قبلت الآن هذا الاقتراح»، وأن الوسطاء «يأملون ويتوقعون أن تفعل حماس الشيء نفسه»، وأضاف أيضًا: إن الولايات المتحدة ومصر وقطر ستبذل قصارى جهدها خلال الأيام المقبلة لإشراك حماس في «الاقتراح الانتقالي».
في الواقع، ما كشف عنه بلينكن وتناقلته وسائل الاعلام الرسمية، هو مبادرة مُعدلة على مبادرة الرئيس بايدن، وتتناقض تمامًا مع ما ورد في وثيقة الثاني من تموز يوليو 2024، والتفاف متعمد عما تم الاتفاق عليه في قمة باريس1 وباريس2 وقمة روما وغيرها من جولات المفاوضات العديدة التي عقدت في كل من الدوحة والقاهرة، وهي في جوهرها استجابة كاملة للشروط الإسرائيلية وتتماهى بصيغتها الجديدة مع طلبات نتنياهو بشكل سافر.
* من بين قضايا خلافية أخرى، وفقًا لوكالات الأنباء الرسمية ورد في الوثيقة المعدلة ما يلي:
- وقف العدوان: كان من المفترض وفقاً لوثيقة الثاني من تموز يوليو أن يدخل وقف العدوان حيز التنفيذ مع بدء المرحلة الثانية، لكن الوثيقة المعدلة أوردت أن المفاوضات في المرحلة الثانية هي من ستحدد السقف الزمني والموعد المحدد لوقف الحرب على غزة.
- انسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة: ورد في الوثيقة الأولى أن على إسرائيل أن تنسحب من كافة أراضي قطاع غزة انسحابًا كاملاً وشاملاً مع بدء المرحلة الثانية من التهدئة، لكن وثيقة بلينكن المعدلة تجاهلت هذا النص ولم يرد فيها نصاً صريحاً بالانسحاب.

- ومحور صلاح الدين "فيلادلفيا" ومعبر رفح: تنص اتفاقية اطار 2 يوليو تموز بوضوح على انسحاب كامل وشامل للجيش الاسرائيلي من الشريط الحدودي ومعبر رفح. بينما تشدد الوثيقة المعدلة على وجوب إجراء مفاوضات "تقنية"، وتقليص الانتشار للجيش الإسرائيلي "تخفيض العدد" على محور فيلادلفيا وليس الانسحاب الكامل، وهو ما يتماهى تمامًا مع مواقف نتنياهو التي أعلن عنها لاحقًا، «إسرائيل متمسكة بالحفاظ على أصولها الأمنية الاستراتيجية». بالمثل، تتمسك إسرائيل بتواجد لقواتها على معبر رفح وترفض عودة السياق الذي كان قائمًا قبل سيطرة حماس على قطاع غزة في حزيران يونيو 2007، وجوهره تواجد فلسطيني مع رقابة أوروبية وفق بروتوكول باريس، والذي تم التوصل إليه بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل برعاية أوروبية عام 2005 بعد الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من قطاع غزة. يقول نتنياهو: "إننا سيطرنا على معبر رفح ولن ننسحب منه". وما ينطبق على محور صلاح الدين ومعبر رفح ينطبق على شارع نتساريم، الذي يقسم شمال قطاع غزة عن جنوبه ويحول تواجد جيش الاحتلال الإسرائيلي دون عودة النازخين إلى ما تبقى من منازلهم.
على إيقاع التلاعب بالألفاظ والمصطلحات الدبلوماسية القديمة والمستحدثة، من قبيل "الفرصة الأخيرة" "مفاوضات تقنية" "اقتراح انتقالي" "إعادة تموضع" "مبادرة معدلة" غادر بلينكن المنطقة، بعد أن حقق أهدافه الحزبية وأطلق رصاصة الرحمة على مبادرة بايدن. من ناحية، نجح في إنجاح أعمال المؤتمر العام للحزب عبر الترويج للأجواء الإيجابية، من ناحية أخرى، نجح بلينكن في تلبية مطالب لوبيات الضغط وجماعات المصالح المؤيدة لإسرائيل في واشنطن لحشد الأصوات والأموال، وجدد موقف بلاده المنحاز والداعم لإسرائيل دون قيد أو شرط، وأعلن أن بلاده والوسطاء بانتظار الرد من الطرف الآخر، في تبرير فاضح لاستمرار حرب الإبادة الجماعية، وإهدار المزيد من الوقت لتحقيق الأهداف الكبرى من هذا العدوان.