فاجأ الرئيس محمود عباس الجميع بإعلانه في مقر البرلمان التركي الخميس عن نيته وتصميمه للذهاب إلى غزة هو وجميع كوادر القيادة الفلسطينية طالبًا من مجلس الأمن تأمين هذه الإقامة. وقد لاقى هذا الإعلان ليس فقط موجة عالية من التصفيق والترحيب داخل البرلمان التركي، وإنما أيضًا رحبت به كافة القوى الفلسطينية والشارع الوطني بكل أطيافه.

في الواقع، لم يكن هذا الإعلان اعتباطيًا أو شعبويًا، وإنما كانت له دلالات سياسية مهمة، من أبرزها:

1- تم اطلاق الاعلان من تركيا، وهي دولة إقليمية كبرى ولها ارتباطات تاريخية وسياسية قوية مع القضية الفلسطينية، ويتمتع الرئيس أبو مازن وقيادته بعلاقات وثيقة مع الرئيس التركي أردوغان. وبالضرورة، فإن خروج هذا الاعلان من تركيا وأمام القيادة التركية يشير إلى أن تركيا تتبنى هذا الإعلان، وستعمل على الضغط في المحافل الدولية لتطبيقه.

2- إن هذا الاعلان جاء بعد جولة تشاورية مع الأقطاب الدولية والإقليمية الداعمة للقضية الفلسطينية، وأهمها موسكو وبكين، وبالطبع سبقت هذه الجولة مشاورات جادة مع القيادة الأردنية والمصرية. وبالضرورة، فإن هذا الاعلان جاء بدعم وتأييد من القوى الدولية والعربية والإقليمية الداعمة للقضية الفلسطينية والمناصرة لشرعية تمثيل منظمة التحرير على الكل الفلسطيني، وهي في مجملها جهود بوركت ودعمت عربيًا ودوليًا باعتبارها خطوة في الطريق الصحيح نحو إنهاء الانقسام وإنهاء الاحتلال الاسرائيلي في الضفة وغزة.

3- إن هذا الإعلان هو تتويج لمحادثات المصالحة بين فصائل العمل الوطني والإسلامي والتي عقدت من خلال رحلات مكوكية في بكين وموسكو. وفي السياق، فإن إعلان أنقرة يشير إلى أن إرادة حقيقية من القيادة الفلسطينية بإنهاء الانقسام تحت شرعية منظمة التحرير من خلال البدء بالخطوة الأولى والضرورية في تحقيق ذلك، وهي عودة السلطة الوطنية الفلسطينية إلى قطاع غزة، بحيث تستطيع أن تجمع الكل الفلسطيني ليس في أروقة الغرف المغلقة للمفاوضات، وإنما على أرض الميدان.

4- إن هذا الإعلان جاء ليقوض المشروع الصهيوني بخصوص اليوم التالي للعدوان على قطاع غزة، وهو اليوم الذي يحاول نتنياهو وحكومته جادين الهروب من استحقاقاته من خلال رفض التعامل مع السلطة الوطنية ومع الفصائل الفلسطينية، والبحث عن أدوات للحكم القبلي في القطاع تشبه روابط القرى. وفي النتيجة، فإن إعلان أنقرة هو تصريح من قبل السلطة الوطنية وقيادة المنظمة بأن لا مباحثات يمكن لها أن تستثني السلطة الوطنية من قطاع غزة، وأن هذه السلطة ستكون حاضرة رغم أنف الاحتلال، وستعمل على سحب قواته من قطاع غزة حتى تتحق الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة والقطاع. إن هذا الإعلان هو بمثابة رسالة تفويت الفرصة على نتنياهو أو أي طرف آخر يعتبر أن السلطة الوطنية هي خارج السياق السياسي في قطاع غزة.

5- إن توقيت إعلان أنقرة باعتباره جاء في أول يوم لمفاوضات الدوحة، والتي تتم بحضور الجانب المصري والقطري والأميركي والإسرائيلي يعتبر توقيتًا مهمًا جدًا، لأنه يريد أن يرسل رسالة واضحة للمتحاورين بأن الاستقرار والأمن لن يتم ضمانه بغياب السلطة الوطنية الفلسطينية. بل على العكس، فإن هذه السلطة ستكون حاضرة رغم الاحتلال ولن تحتاج إلى إذن من أحد لتواجدها وحضورها السياسي الفاعل والمؤثر.

وفي النتيجة، فإن الرئيس عباس نجح من خلال إعلان أنقرة بقلب طاولة المفاوضات الإقليمية والدولية بشأن ضوابط ومحددات إنهاء العدوان الإسرائيلي في قطاع غزة.

ليس هذا فقط، وإنما نجح سيادة الرئيس أيضًا بتعزيز شرعية السلطة الوطنية وزيادة شعبيته وحركة "فتح"، فمن المتوقع أن يصطف مئات الآلاف من الجماهير خلف القيادة الفلسطينية في الذهاب إلى قطاع غزة والإقامة فيها حتى ينتهي العدوان الإسرائيلي ويتم إعلان الدولة.

إنها مرحلة جديدة من مراحل الصراع مع المحتل، مرحلة تكون فيها القيادة والفصائل في الميدان متلاحمة مع الشعب في معركة الاستقلال والدولة.