قد يستطيع المنكوب بأرضه وماله وبيته ورزقه تعويض خسارته، لكن المنكوب بعقله وبالمفاعلات المنتجة للطاقة اللازمة للعقل لا يمكنه التعويض أبداً، وسيبقى في هبوط من خسارة إلى أخرى، حتى يصل مرحلة البحث عن الذات الشخصية، ومقوماتها الأخلاقية، وعن الهوية الجمعية الإنسانية المرتبطة بالجذور الوطنية، فلا يجد أثرًا، ذلك بسبب انحرافه عن المسارات المتوازنة بقوة جاذبية الثقافة الإنسانية، ودخل في متاهات متشابكة، لا مخارج لها، ولا إشارات تدل على اتجاهات المستقبل.

المنكوب بعقله لا يقر بصواب رؤى الآخرين، ولا يقرأ تجارب الآخرين، لاعتقاده أن تاريخ الإنسانية يبدأ من يوم ميلاده، وينكر الأفكار والنظريات والفلسفات والعقائد السابقة ليوم ظهر جماعته "الفئوية" سواء كانت بثوب سياسي أو ديني أو اجتماعي أو أي ثوب يضمن له استمرار الهيمنة، وحشد جمهور من شريحة اجتماعية ما، لإسقاط نزعة التسلط مرة واحدة، حتى لو أدى ذلك لإنفجار لا يبقي ولا يذر.

المنكوب بعقله اجتث بصيرته، واعتد ببصر معاكس لقوانين الأبصار ومخالفة لنظريات انعكاسات الضوء المعروفة، فيعتمد على حاسته البصرية  وهو يعلم يقينًا أن ما يراه انكسار، وليس الحق والحقائق ولا صورة الواقع، ويصر على تعميم الفكرة الإنسانية، مشوهة كما رأتها عيناه المصابتان بداء تضخم الأنا فقط.ليس هذا وحسب، بل يمنح منظوره على ضيقه وقصر عمق ميدانه قداسة، لإبطال أي محاولة لنقاشها من الآخرين سلفًا، ويتوعد بزج مخالفي تعاميمه ومفاهيمة بالجحيم، ويعد المنساقين وراءه كالقطيع  إلى مصائر يجهل فظاعتها أصلاً، أو يأخذهم إليها عن قصد لبناء صرح زعامة من نوع ما، فالهياكل العظمية لقطيعه البشري لازمة وضرورية لصنع تاج لهذا الصرح، من عظام أتباعه الذين يتسابقون للسقوط في دوائر الموت العبثي بلا ثمن أو مقابل أو أدنى انجاز في الحياة، ليبقى رابحًا ومتكسبًا من استثمار دماء أطفالهم ونسائهم المسفوكة قبل دمائهم.

المنكوب بعقله هو الذي لم يقف للتفكير ولو للحظة واحدة، ثم يسأل نفسه: لماذا حدث هذا؟ وكيف حدث؟ ما الحكمة؟ من المستفيد؟ أين نحن الآن من الهدف؟ حتى لو فعلها فإنه لن يحظى بإجابة، ولا يسمع صدى لأسئلته حتى، لأنه أخرج نفسه من قوانين فيزياء الطبيعة وكيميائها، حتى التفكير سيبقى مجرد هواجس وأضغاث أحلام، مادام هذا المسكين منحرفًا وبعيدًا، رافضًا الانخراط في مسارات الإنسانية وثقافتها الجامعة.

المنكوب بعقله قد يبدو مظهره أنيقًا، يخادع المجتمع بمسميات، شبيهة بمسميات الذين أنقذتهم عقولهم من نكبات مادية فردية وجمعية، واستطاعوا رد صاعها صاعين على الذين تسببوا بنكبة الشعب الذي ينتمون إليه، وكشفوا نكباتهم العقلية، وأثبتوا لهم أن التعامل مع الإنسانية بمعيار هذا أدنى وذاك أعلى، هذا خادم وذاك سيد على البشر، وهذا مختار منح سيفًا نسبه إلى رب مزيف، وذاك إنسان دمه مهدور بأوامر من هذا العدو المكذوب لكنه مهما تجمل وحسن مظهره، فإنه يسقط بأول امتحان في موضوع قداسة روح وكرامة الإنسان.