بعد انتهاء المجزرة وانسحاب الجيش الصهيوني من بيروت، مكثنا في المُخيّم لفترة قصيرة حتى بدأ مسلسل الدم من جديد.. إنّه حصار المخيّمات الفلسطينية عام 1985.

اعتقدنا بأنّنا سنسترجع بعض الاستقرار النفسي ونستفيق من كابوس المجزرة الصهيونية التي عبثت بأعماقنا وتركَت ندوبًا على جدران قلوبنا وسيّجت حصار أرواحنا بأسلاك مكهربة لغربةٍ أخرى في الغربة.. غربة جبريّة لا بوصلة لأيّ حلمٍ يولَد فيها بالعودة إلى الوطن.

بغتة ودون سابق إنذار، تعالت الأصواتُ المرتجفة الخائفة المذعورة في المُخيّم.. فقد وصل نبأ استشهاد "هيثم خشان" (17 سنة) على أطراف المخيّم، ثم وصل نبأ آخر عن استشهاد شاب من عائلة "أبو جلدة"، وبدأت تُمطر أنباء عن استشهاد آخرين!

اكتسحَت المخيّمَ موجةٌ من الغليان، ولا أجوبةً يقتاتُ منها طائر الطمأنينة البائس، فلا شيء غير التّساؤلات الحيرى.. الناس تتراكض بلا وجهةٍ هنا وهناك في ترنُّحٍ مثل السُّكارى، وكأنّها أهوال يوم القيامة. 

توجّهنا مسرعين إلى الملجأ، واختبأنا مع أناس كثيرين لمدة يومين متتاليين. كنا نسمع أصوات البكاء والنّحيب والتّوجّع لمُصابين لم يتمكّنوا من الذهاب إلى المستشفيات. كنا نستقبل خبر استشهاد أحبّائنا وجيراننا ومَن نعرفهم ومَن لا نعرفهم.. الواحد تلو الآخر، كأنّما أقام الموت طابورًا لاجتثاث الأرواح من أجسادٍ لا تعلم ما ذنبها حتى تُقتل، ربّما ذنبها الوحيد أنها "اقترفَت" الوجود في الحياة!

كان عقرب الساعة متوقِّفٌ تمامًا، والظلام دامس، والحيرة هي قِبلة أفكارنا، ولم نكن نملك إلاّ انتظار الموت على رهن الأماني. استطعنا الخروجَ من المخيم، لا أذكر التفاصيل، لكنه كان خروجا من رحم الموت، وبداية تشرُّدٍ آخر لعائلتي: أبي وأمي وأنا وابنتَي أختي، وأختٍ أخرى كانت تعمل في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني. 

استأجرنا منزلا بعيدًا عن المخيم، وأما الذين لم يُغادروا المخيّم فقد بقوا رهائن لأهوال حصارٍ امتدّ حوالي ستّة أشهر.. من بين المُحاصرين، شقيقتي التي أصيبت في قدمها، وقدّر الله لها النّجاة، فتوجّهت بعد هذه المأساة الدّامية، هي وأولادها وزوجها، إلى ألمانيا واستقرّت فيها.

انتقلنا من مخيم شاتيلا إلى منطقة "البربير" في بيروت، وهي منطقةٌ لا تبعد كثيرا عن المخيم. ولأني لا أستطيع الانفصال عن مخيّمنا، فقد كنتُ أذهب، خلال أوقات الهدنة، إلى مخيم "مار إلياس" وهو أصغر مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، تبلغ مساحته نحو 0.5 كلم مربع، ويقع إلى الجنوب الغربي من العاصمة اللبنانية بيروت.. أذهب لأتلقّط ما يصل من أخبار الناس ومَن أعرفهم في مخيم شاتيلا المُحاصر. 
سمعتُ قصصا كثيرة ما زالَت تنخر في ذاكرتي، وكلّما سمعتُ قصصا عن أوجاع الفلسطينيين تستيقظُ المواجع في داخلي وأغرق في بركة من الآلام النفسيّة... قصصٌ تُدمي القلب وتُحرق الروح، وكثيرًا ما أتساءل: يا الله، أما آن لهذا الشعب أن ينعم ببعض السكينة ويستسلم لفُسحة من الطمأنينة، فحتى استراحة المحارب لم تعرف طريقها إليه! الدم والقهر والتّهجير واللّوعة المزمنة، وما أشبه اليوم بالغد، وهذه الحرب اللعينة التي خيّمت بالأسوَد على أبناء شعبنا في فلسطين.. تمتدّ وتمتدّ وكأنها حربٌ أبديّة ليس لها آخر!

أقمنا في منطقة "البربير" لفترة ليست بالقصيرة. ودرستُ الصفّ العاشر (الأولى ثانوي) في مدرسة "رمل الظريف" الرسمية في منطقة الرّوشة، كانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها أنا وأمي صخرة الرّوشة العملاقة الجميلة.. وأقولها بكل صراحة أنني لم أعرف لبنان من قبل، فقد عرفتُ لبنان لأول مرّة بعد حرب المخيّمات، لبنان هذا البلد الجميل الذي يعني الكثير.. لي ولكل الفلسطينيين الذي احتضنَهم بكل محبّة.

ما إن أكملتُ سنتي الثانية في مرحلة التعليم الثانوي، حتى دقّ بابي ما نُسمّيه: النّصيب، فتزوّجتُ في شهر جويلية/ تموز 1989، وانتقلتُ للعيش مع زوجي في مُخيّم "برج البراجنة" في بيروت. وقد كنتُ حاملا عندما تقدّمتُ بطلبٍ حرٍّ لاجتياز شهادة البكالوريا الثانية (التوجيهي).. امتحنتُ ونجحتُ، وهكذا تحقق حلمي بأن أحصل على هذه الشهادة.. لكنني ما زلتُ أحلم بالحلم الفلسطيني الأعظم، حلم العودة إلى وطني فلسطين، وما زلتُ أنتظر "أجراس العودة أن تُقرع"، وأعود مع إخوتي الفلسطينيين إلى رحاب أرضنا الطيّبة، فنحيا مُكرَّمين في وطننا فلسطين، ونموت ونُدفن في ترابها الشّريف.. فما أعظمها من نعمةٍ أن يكون لك وطنٌ تُدفن في ترابه!