تبدأ علامات الشيخوخة المبكرة بالظهور على الكيانات السياسية التي تتضاعف فيها نسبة الأعضاء حيث يظن كل منهم أنه محور الكون وتحديدًا الإطار السياسي المنتسب إليه، حتى أن البعض يذهب إلى حد الاعتقاد أنه يجب أن يعاد النظر بأسماء المؤسسين، وابتداء التأريخ السياسي من لحظة انضمامه، ليس هذا وحسب، بل تراه يسعى جاهدا لتخطئة رأس الهرم القيادي في كل مناسبة، لإثبات وجوده عاصرًا المناخ الديمقراطي حتى آخر قطرة!. 

أما انفراط عقد العمل السياسي الجمعي الوطني فيبدأ عندما يستعجل هذا الذي لا يشق له غبار عملية اللعب والتلاعب بمشاعر الجماهير، فيطربها بشعارات طوباوية، أو مقولات جوفاء، أو ينثر في فضائها غبار خلطة متقنة المقادير من التاريخ والعقيدة والسياسة، فيظنه الناس المخلص أو المحرر المنتظر، لكنه عند أول  فحص دقيق لسيرته الذاتية نجدها خالية من الأفكار الخلاقة، أو المبادرة والإبداع، أما عند الامتحانات العملية  فتراه مريضًا، أو مرتحلاً (مسافرًا) مدعيًا الضرورة نحو مهمات وطنية، أو منظرًا أو ناظرًا فقط من بعيد، لا يكلف نفسه عناء تجسيد الموقف في الميدان، ولا الوقوف لأكثر من دقيقة صمت على أرواح الشهداء في قاعات الفنادق المكيفة، لا يعرف من كلمات نشيد إلا العنوان ! 

يحدث لنا هذا عندما يغلب هذا النوع من الأشخاص مصالحه الشخصية الذاتية، ويقدم جشعه السياسي على المصالح العليا للشعب، فتراه يغالب الواقعية السياسية والعقلانية والحكمة  والرؤية السليمة، والقراءة الصحيحة للوقائع والحقائق، مستخدمًا مهارته اللغوية أحيانًا، وتجاربه الناجحة بهذا الخصوص في دائرة علاقاته الشخصية، فيرى نفسه في المرآة أبو فراس الحمداني وخالد بن الوليد وصلاح الدين، وروبن هود، وتشي جيفارا وماوتسي تونغ، فيظل كذلك حتى تتشقق بضغط الوهم!. 

يطلب صاحبنا هذا الحرب والعمل المسلح، وهو يعلم أن الجماهير غير المنظمة والتي لم يهيأ لها ملجأ، أو دواء، أو احتياطي غذاء وماء وكهرباء ستكون الضحية، ولا يصيبه من نتائجها وكوارثها ومآسيها ومعاناة الأحياء والجرحى والمشردين منها إلا بعض الوقت يصرفه على نفخ عروق رقبته في التصريحات والمقابلات الاعلامية، وليزبد رغوة لا نفع منها، ويرعد بلا مطر!. 

تحسب هذا النوع من المشتغلين بالسياسة أمياً، رغم تعريفات أكاديمية ترادف اسمه، فتستغرب كيف أن رؤيته  وتحليلاته وإدراكه للواقع لا يرقى الى مستوى عتبة أم الشهيد وأخت الأسير، وأم الأطفال المهجرة التي شردتها منظومة العدوان، فلا يملك إلا التشدق بمقولات الحق التي يراد بها باطل وأهمها بان الحرية تحتاج لتضحيات!! لكن هذا المتمترس خلف أكياس رمل الخطاب  التعبوي، والقاذف لسانه للهب حارق خارق لمعاني الانسانية التي لا تعني له شيئا، لا يرى المواطن إلا كبشًا (أضحية) أما هو فيحظى بمسمى المضحي!. 

أخشى أننا في حالة اختلط علينا في حيثياتها التمييز بين ممتهن للسياسة كحرفة للتكسب الشخصي أو تجيير عائد ما على إطار حزبي ضيق، حتى لو كان مقابلها توسيع مساحات المقابر وزيادة اسماء الشباب والأطفال والنساء والشيوخ على شواهدها، وبين سياسي وطني يعرف كيف يخوض دوائر النار الأخطر، ويتحدى خطر الموت، ويحترف السياسة الحكيمة الصائبة ليحقق المكاسب للشعب، الذي يجب أن يحقق الحرية لينعم بها في ربوع الوطن الحر المستقل .. لقد آن الأوان ليعرف هؤلاء أن العواصف والأعاصير تقتلع الأشجار المتضخمة وأولها الفارغة، وان السنابل الخضراء الممتلئة بالخير منيعة، وأقوى وأبقى. 

 

المصدر: الحياة الجديدة