يوم الثامن من تموز/ يوليو الحالي، الذي يصادف الجمعة وقفة عيد الأضحى المبارك، تحل الذكرى الخمسون لرحيل رجل من طراز رفيع. خمسون عامًا انطوت، وما زال غسان واقفًا وشامخًا ومتابعًا كل الأحداث والتطورات بعيونه الثاقبة، وفكره الاستشرافي العميق، ونبوءات رواياته ومسرحياته وكتاباته الإعلامية في الحرية والمحرر والهدف وغيرها من المنابر. لم يغادر كنفاني مسرح الكفاح والعطاء، وما زال نابضا وقابضا على جمر القضية والوطن والشعب والحرية والسلام والاستقلال.
نعم لم يمت غسان، ويخطئ من يعتقد أنه مات، وإن رحل جسده، وشيع بقايا رفاته مع ابنة أخته لميس في بيروت بعد تفجير سيارته في بعبدا على مشارف بيروت في عام 1972، ولم ينضب نبع الكتابة عنه؛ لأن عبقريته التي أطلقها في فضاء الإنتاج الأدبي الروائي والمسرحي والفكري السياسي والإعلامي والفن التشكيلي في الزمن القياسي الذي عاشه، ولم يتجاوز السادسة والثلاثين عاما دليل ساطع على كم العطاء البديع والكثيف والغني. وكأن غسان ولد وهو حامل قلم المعرفة، وطارد الزمن القصير الذي أتيح له من العمر، وهو يكتب ويرسم، وينثر الفرح والأمل بالعودة والحرية والاستقلال بين جموع الفلسطينيين والعرب وأنصار السلام في العالم، والإيمان بالثورة وروح المقاومة، وجمع شتات الشعب، حين كشف النقاب عن أدب المقاومة في الجليل والمثلث والنقب والمدن المختلطة، وكان له قصب السبق في هذا الحقل الحيوي والاستراتيجي في نضال الشعب الفلسطيني.
وكأن الرفيق غسان كنفاني، كان يعلم أن رحلته في الحياة قصيرة، لهذا ورغم مرض السكري، الذي رافقه طيلة حياته، إلا أنه فجر ينابيع عطائه كلها دفعة واحدة، لم يتوقف قلمه الشجاع والراقي والنبيل، قلمه المقاوم، وفكره النير عن التدوين، وظل يدق جدران الخزان، وما زال رغم رحيله من خمسين عاما حتى يوم الدنيا هذا يدق جدران الخزان، وينادي بالعودة والاستقلال الكامل الناجز لوطنه الفلسطيني، ويصرخ فينا جميعا نحن الأحياء، لا تستسلموا، تابعوا الكفاح، لا تسقطوا الراية من أيديكم؛ لأن أبا الخيزران وأم سعد وغيرهما من أبطال رواياته أيضا لم يموتوا، وما زال هناك آلاف وملايين أبو الخيزران وأم سعد، وجميعهم يدقون الجدران كلها، ولن ولم تكل أيديهم، ولا حناجرهم وأقلامهم وسواعدهم وأناشيدهم وإبداعاتهم من الطرق على جدران الحرية والاستقلال والعودة وكنس المستعمر الصهيوني، وطي صفحة الانقلاب الأسود، واستعادة الوحدة الوطنية، والارتقاء بأشكال المقاومة كلها خاصة المقاومة الشعبية، ونهوض الأمة من محيطها إلى خليجها، وتمردها على مصيرها البائس.
رحل غسان الجسد، ولكن الميراث الكبير والغني والدروس والعبر، التي تجذرت وتوطنت في كتاباته الأدبية الإبداعية والفكرية السياسية والتنظيمية والكفاحية ما زالت حاضرة، وماثلة أمام كل وطني غيور، ومعني بتحقيق الأهداف الوطنية والقومية، وستبقى نتاجات المبدع العبقري عضو المكتب السياسي للشعبية، ورئيس ومؤسس صحيفة الهدف، الصحيفة المركزية للجبهة منارة ساطعة في وسط الظلام الحالك.
وستبقى مدرسة غسان المعرفية والفكرية السياسية واحدة من أهم المدارس الوطنية والقومية، رغم كل العثرات والهنات والانكفاءات، ولن تنحرف بوصلة الكفاح، ولن تنحني هامات الرجال أمام المشاريع المشبوهة الصهيوأميركية والإسلاموية الإخوانية، لأن كنفاني الرمز العالي والعظيم وضع الضوابط والأسس الراسخة لرفاقه، وتكافل مع حكيم الثورة في وضع المداميك والأساسات القوية والراسخة للمعايير الوطنية والقومية، ومن لم يميز بين الغث والسمين في المعايير الوطنية والقومية مصيره العار والسقوط.
ما زال غسان كنفاني بحاجة ماسة للتنقيب في نتاجاته، ومقالاته وأبحاثه ورواياته ومسرحياته، لأنها غنية بدروس لم يكشف النقاب عنها، أو كشف عن الكثير منها، بيد أنها بحاجة ماسة للتعميق والتجذير والتطوير، وإعادة الطرح في أوساط من يدعوا أنهم يعيشون في كنف مدرسته الوطنية والقومية.
مجددًا لن أقول وداعًا يا غسان، ولكني سأقول لنا لقاء آخر في ذكرى أخرى، لعلني أتمكن من سبر بعض أغوارك التي لم تكتشف حتى الآن، ولروحك ألف سلام، وستبقى حيًا بيننا في أعظم صفحات الوطنية، ورمزًا من رموز الثقافة الوطنية والقومية.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها