لم أعرف السر وراء إصرار سيدة خمسينية في بلد عربي على إشعال الفحم بموقد شوي اللحوم باستخدام ورق الصحف المغمس بزيت الزيتون بدلاً من الأعشاب الجافة أو المواد سريعة الاشتعال، فالأهم بالنسبة للسيدة الحكيمة أن يصير الفحم جمرًا، ليطيب الشواء! وعندما سألتها، سارعت لفرد صفحة كانت مشبعة بالزيت ومضغوطة لتمنحها لسان لهب كافيًا لإشعال الفحم، وأجابتني: "اتفضل شوف، شو في بهالجريدة يبرد القلب وبيطمن النفس، كل ما فيها كلام ناري، شوف هالتصريح وهذا البيان، وهالصور المغبشة والأخبار اللي شفناها وسمعناها، وين اللي بيخليك تعتبر الجريدة وثيقة وما تفكر إنك تشعلها؟!" فقلت لها مازحًا: "أخشى رؤيتك في يوم ما في جهاز الرائي (التلفزيون) بدل الموقد". فغادرت نطاق الدخان إلى حيز صفاء فتكونت سحابة خواطر، أمطرناها بهذه الأسئلة وزبد الكلام.
ما العمل مع وسائل تزوير وتجهيل وتهديد ونفي الآخر؟! فالصحافة انعكاس لرسالة إنسان حر، ثري التفكير والتعبير، وليس المال وحسب، والصحفي عادل بآرائه، نزيه وصادق بمهنته، سوي سلوكه، مؤتمن، متحرر من القيود الزاجرة وملتزم بقيم الأخلاق.
لا رقابة على الصحفي إلا الضمير والإيمان بالرسالة، فهو كالقاضي.. وكلاهما مستهدف لارتكازهما على مبادئ العدل والحرية والديمقراطية والكرامة والالتزام بالانتصار لحقوق الإنسان، لكن كلمة الباطل في الإعلام والصحافة تدمر ما لم تدمره القذائف المدمرة الذكية أما الضحية فهو وعي الإنسان المكتوي بنار حراب الجاهليين، الذين انقلبوا على السلطة الرابعة وأتوا عليها حتى صارت في قاع المضمون رغم الملايين المصروفة على الجاذبية بالألوان والأضواء والإثارة البصرية، الجاثمة على عيون البصيرة.
دعونا نتفق أنها ليست صحافة أو وسيلة إعلام أو اتصال تكنولوجي لا تنتصر لقيمة الإنسان وحقوقه، وإنما هي معاول هدم للسلم الأهلي والمجتمعي تلك المحرضة على الخصومة والعدائية والكراهية. فالذين يعتبرون قيمنا ومجتمعنا فحمًا، يشعلونه بورق الجرائد المغمس بزيت الكذب مجرمون، يحرقون ضحاياهم، ويرمون عظامهم في قبور، ويتربحون من طباعة ملصقات الشهداء! أما السيدة سالفة الذكر فإنها في الحقيقة تصب الزيت على دعايتهم، لتطهر الورق الأبيض من حبرهم السام.
والسؤال المطروح الآن هل بإمكاننا وضع معايير للممنوع والمسموح أم نعتمد مدى الالتزام بالمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان معيارًا؟ وعلى ذلك لا مجال لأخذ حرية الرأي والتعبير كمبرر للرمي العشوائي، فالإذاعات والصحف والمرئيات، ووسائل الاتصال ليست متاحة للإفتاء بالقتل وقطع الألسن وفقء العيون، وشرعنة القدح والذم والتحقير، أو التمييز وفرز ابن آدم هذا إلى الجنة وذاك إلى الجحيم! أو الدعوة وبشدة لنفي الآخر، وللتفريق بين أبناء البلد والوطن والمجتمع الواحد، ويصغرون قيمة الإنسان الأنثى ويجعلونها قاصرا نصف عاقل.
لا ينفع القذافون والشتامون الذين يلدغون كالثعابين والعقارب! ولا عصمة ولا حصانة لمن يرمي شرف امرئ ذكرًا كان أو أنثى، مسؤولاً عن رعية كان أو رب أسرة.. فميزان الصحفي طهارة لسانه ونزاهة قلمه. أما الحبر المخطوط على ورق الجرائد فإما أن يكون مطهرًا من أمراض المجتمع، وإلا فإن خالطه بالسم وجب علينا مقاطعته وقطع الوصل معه، فالقلم العلمي، الموضوعي، المهني، المنطقي، اللغوي، الحر، هي الصحافة الحرة، أما صحف ووسائل السحرة والمشعوذين في دروب السياسة والمجتمع والدين والاقتصاد والثقافة وسائلهم الناضحة بالكراهية والقطع بين الإنسان وأخيه الإنسان، الجارفة لمبادئ وحقوق وواجبات المواطنة فهي أسلحة تدمير شامل، لكن دون انفجارات ونار ولهب وشظايا!!.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها