لله والتاريخ والمكان حكمة عظيمة في اختيار الأبطال التراجيديين، مراحل حياتهم على بساطتها غالباً ما تكون مبرمجة متناغمة مع تبلّور الذات فيهم، كأنها مجبولة من طينة خاصة ومختلفة عن بني البشر، وإن وجدت الصدفة في حياتهم، فإن وجودها يكون لترسيخ حضورهم، ورفع مكانتهم، وصقل مواهبهم القيادية، وانبعاثهم من رحم آلام شعوبهم ومعاناتها. وغالبًا لا يمكن للإنسان العادي الفصل بين الرموز العظيمة وبين قضاياهم، ومصير شعوبهم، لأن التمازج والتداخل والانصهار بين نسيجهم الذاتي وأوطانهم يفوق الوصف، ولا يعود هناك مجال للتباين مهما كان صغيرًا بينهم.
الشهيد الرمز ياسر عرفات أحد الأبطال التراجيديين، هو أبو المفارقات والتناقضات والإبداعات، وصانع التاريخ وعابر محطاته بصلابة واقتدار، وفارض نفسه على الدنيا بكل تلاوينها ومشاربها وصنوف قياداتها ومركباتهم. مغامر وواقعي في آن، مقاتل وصانع سلام، عنيد وجبار وإنسان، وديع إلى أبعد الحدود، فقير وبخيل بحق نفسه وكريم مع غيره، براغماتي ومتشدد في آن، يقبل القسمة على كل المتناقضات، وناظم حياته الأساس شعار ومبدأ الميكافيلية "الغاية تبرر الوسيلة"، لا يخشى الغوص بيديه وقدميه في كل الدروب، يبحث عن بصيص أمل، وضوء في آخر النفق، معلم ومبدع في فن التكتيك السياسي، والأقدر على تدوير الزوايا، كان مراوغًا متفوقًا، تراجع وتقدم، بيد أنه لم يحد لحظة عن هدفه، هدف الشعب بكل ألوان طيفه السياسي.
أبو عمار كان يرى في نفسه كل زعماء الأرض عبر التاريخ فهو يفترض أنه تلميذ أبو الأنبياء إبراهيم، وموسى عليه السلام، وعيسى المسيح عليه السلام وآخر الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام، وهو كل الخلفاء الراشدين، وأبطال الفتح الإسلامي، وهو جمال عبد الناصر ونلسون مانديلا وكاسترو وغاندي ونهرو وهوشي منه وجياب وماو تسي تونغ وبن بلا وبومدين والحبيب بورقيبة وعبد الكريم الخطابي وعمر المختار... الخ.
لو دقق الإنسان في شخصية الختيار لوجد فيها كل الأبطال التاريخيين، ومع ذلك كان نسيج ذاته، مجبولاً من طين وفولاذ، من لحم ودم، من مدارس الفكر المختلفة، لا بل يرى في نفسه جامعًا لها، ومتسيدًا على رأسها، وفوقها، وصاهرها في بوتقة الكفاح الوطني التحرري، وفي بناء وتطور فكرة حركة "فتح".
ومع ذلك لا يقبل القسمة على بطل بعينه، ولا على مدرسة فكرية بذاتها، كأنه كان يحمل في ذاته مصنعا لصهر كل المتناقضات ليتربع على عرشها دون استثناء.
عرفات البطل التراجيدي تمكن من أن يؤصل لحضوره ومكانته العالمية كأحد أسماء القضية الفلسطينية. لا بل أن كثيرًا من بني البشر لم يعرفوا فلسطين وقضيتها، ولكنهم سمعوا وعرفوا أبو عمار وكوفيته، التي كرسها رمزًا من رموز الهوية الوطنية في الثورة المعاصرة، وأعاد لها بريقها ومكانتها، التي استحوذتها في ثورة 1936 / 1939.
لأنه كل ما تقدم، كان رجلاً إشكاليًا، غامضًا وصعب المراس، لم يكن سهلاً سبر أغواره، كما لم يكن مستحيلاً، كان كل تلك الفرادة، كان المنطق ونقيضه، كان ماسكًا لجام الليل والنهار، يخشى أن تفوته لحظة زمن أو حدث مهما كان بسيطًا. كان كتلة من النشاط والحيوية والفطنة، لماح بسرعة البرق، لا يقبل أن يفوته شيء. أعجز القادة الإسرائيليين، وأفقدهم توازنهم حتى تواطؤوا على شخصه مع حلفائهم في إدارة بوش الابن، واغتالوه بالسم بعد أن حاصروه حتى الاختناق في مقر الرئاسة برام الله.
لكنه انتصر عليهم بإرادته الفولاذية، وهزمهم في الكرامة 1968 ولبنان 1982 ورام الله 2002 وغزة 1996 و2000، نعم اغتالوه منذ سبعة عشر عامًا، لكنهم لم يهزموه، ولم يهزموا فكرته ومشروعه التحرري الوطني، لأنه أصل للحرية والاستقلال والعودة وتقرير المصير، ورغم كل النواقص والثغرات والمركبات الطبيعية واللاطبيعية في مكونات الحالة الفلسطينية إلا أن الطريق التي عبدها ياسر عرفات مازالت، هي الطريق المفتوحة، التي سار ويسير على دربها كل أبطال الحرية والسلام. رحمة الله على أبو عمار، الذي مازال حيًا وخالدًا فينا وبيننا.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها