لا يفكر القادة العظماء ولا يخططون إلا لتحقيق الانتصار للحياة، أما الموت فإنهم إذا صارعوه فلا يعني بالنسبة لهم سوى اكتساب فرصة جديدة لخوض جولة جديدة في المعركة لانتزاع الحرية، من براثن وحش بشري فاقت دمويته كل علوم ومعارف الإنسانية عن المخلوقات الوحشية العملاقة والميكروسكوبية مجتمعتين. 
نحب ونحترم ونقدر قادتنا، نقتدي بسيرتهم، بأفكارهم، بسلوكياتهم، فمنهجهم مخطوط بحبر الالتزام والانتماء والعطاء والتضحية بلا حدود، نضجت عبقريتهم في مدرسة الشعب المتقدمة في زمن الثورة. 

في العاشر والحادي عشر من نوفمبر نعبر عن امتناننا لمن استطاعوا الحضور الأبدي في زماننا، في يومنا المؤلم، وغدنا المفعم بالأمل، وفي مستقبل مداه الحرية، التي لو بحث كل علماء الفلك والكون، والفلاسفة والحكماء عن علامات حدودها، لما وجدوا إلا آيات الله تثبت وجودها ولكن بغير زمان أو مكان أو حجم محدود. 

أعرف أمرًا واحدًا وهو أن الكتابة عن العبقريين وفاء، وحسن امتثال وتقمص للشخصية العبقرية، صحيح أن لشخصيتنا هوية ومميزات، لكن الورود النابضة بالحياة، المشعة بجمال الفكرة، النابتة على فوهة بركان رغم ثورانه واشتعاله، ويتفوق أريجها وعبقها على سموم دخانه الخانق قد ملكت أسرار الحياة، وتسلحت بقدرة استثنائية على اختراق حاجز النسيان الطبيعي، والنفاذ منه إلى الخلود. 

ياسر عرفات وإلى جانبه صائب عريقات منحا وكل الشهداء البررة تراب الأرض المقدسة فلسطين غنى وطهرا ولا أثمن، كما منحوا العبقرية الإنسانية معدنًا وطنيًا، وتعريفًا جديدًا لا يدرك معانيه إلا من امتلك قلبًا كجغرافيًا الوطن، وعقلاً كمناخه، وفكرًا كهوائه عابرًا للحدود، وعواطف صافية رقيقة كينابيعه العذبة، وارتفع صامدًا عصيًا على الغزاة كجباله، وطيبًا معطاءً كتربة سهوله، أما كنوز التاريخ والتراث والثقافة والوجه الحضاري لشعب فلسطين، فقد رآها العالم في عيونكما، بأحسن صور بلاغية خاطبتم بها ضمائر العالم في الدنيا. 

نشهد للزعيم الخالد بالحكمة والشجاعة والصلابة والثبات كدرر في تاج الواقعية السياسية، ونشهد له ولعريقات إيمانهما المطلق بالوطنية الفلسطينية والعمق القومي العربي الاستراتيجي وكذلك الإنساني، ومنهج العمل بمنطق وروح الفدائي قد مكننا مع سيادة  الرئيس محمود عباس أبو مازن من استعادة المكانة التاريخية والطبيعية لفلسطين الوطن والشعب والجغرافيا والقضية في خريطة العالم، زعماء صادقين مع الشعب الذي منحهم الثقة والقوة للتمسك بثوابته، والإصرار على انتزاع حقوقه..

فالأمانة محفوظة في عهدة قائد حركة التحرر الوطنية الفلسطينية، رئيس الشعب الفلسطيني، الوفي المخلص، الصادق، الشجاع، الحكيم العقلاني، كما عهدتموه في محطات الامتحان الأعظم خلال مسيرة الثورة بالكفاح والنضال...

وسنثبت للعالم أن المناضلين الوطنيين في فلسطين يرثون ويورثون الإرادة ومنهج الكفاح من أجل انتزاع الحرية الاستقلال والسيادة وتنتقل من جيل لآخر كالجينات، فنحن لا أثمن ولا أقدس من هذا الإرث. 

تحزن نفوسنا، ويُعتصر الألم من قلوبنا، لكننا نعرف أن ياسر عرفات (أبو عمار) كان رمز الثورة الفلسطينية المعاصرة، ومكانته كنموذج وأب روحي للمناضلين الوطنيين والأمميين على تنوع أعراقهم وأجناسهم وألوانهم في العالم، وفخرنا أنه كان فلسطينيًا منا وفينا، قد ترك لنا سيرة ومنهجًا في الفداء والتضحية والعطاء ونكران الذات، وسجل أحسن صور الوفاء لقسمه وعهده وإخلاصه بالنضال من أجل فلسطين وتحريرها. 

نحزن لكننا نقوى على الحزن عندما نعلم ونحن نقرأ في شخصية صائب عريقات الالتزام والثبات على المبادئ، والتمسك بالثوابت والعمل تجسيد للانتماء بلا كلل أو ملل، فالقائد عريقات كان على رأس المناضلين لمواجهة منظومة احتلال استيطاني عنصري، أنشئت كقاعدة متقدمة للدول الاستعمارية، وأن انتزاع حقوقنا المغتصبة منها سيكون بداية تحرر العالم من الهيمنة الاستعمارية وآخر شكل للعنصرية والأبرتهايد في العالم. 

عرفات كان مدرة للقادة الكبار وكانعريقات أحد أبرز تلاميذها ومن أشجع جنودها تميزًا، وفخرنا اليوم أن المعلم والتلميذ علامتان مضيئتان في تاريخ فلسطين المعاصر، خالدان وحاضران أبدًا في ذاكرة الأجيال... كانت وصية كل منهما فلسطين، ونشهد أننا قد تبلغنا الأمانة الوصية ونحن أهلها. 

المصدر: الحياة الجديدة