في خطوة تعزز دور القيادة وتفاعلها مع كافة القضايا المجتمعية، كان للرئيس محمود عباس وعدد من أعضاء القيادة الفلسطينية جولة مهمة في مدينة رام الله أمس الأول، خطوة تدشن مرحلة جديدة من مواجهتنا لجائحة "كورونا"، لكن هذه المرة تحت عنوان كبير "فلسطين تتعافى"، مرحلة تنطلق فيها القيادة والمؤسسات والمواطنون عموماً لفتح صفحة جديدة من التطبيق الخلّاق لبروتوكول المرحلة الجديدة، لأن التعافي يبدأ بالوعي والالتزام وعدم التهاون، التزام بالعمل الجاد على إعادة القطاعات الاجتماعية والاقتصادية وتحريك شريان الحياة لتعود مؤسساتنا في قطاعها العام والخاص والأهلي إلى عطائها المعهود، ولتنطلق الحياة إلى مرحلة التعافي لكن بكل حذر وبأقصى درجات التأمين لشروط الحركة والتواصل واتخاذ إجراءات السلامة الطبية والاحترازية في المواصلات والمكاتب ومناطق التجمع ومراكز التسوق وباقي مناحي الحياة، فالتعافي هو بتجاوزنا للإصابات الجديدة كمجتمع وليس فقط كأفراد، فسلامة كل فرد هي صمام أمان سلامتنا جميعاً، وهذه كانت رسالة سيادة الرئيس خلال جولته التفاعلية ودعوته لكافة المواطنين لحسن الإلتزام بالإجراءات الطبية والصحية التي أصدرتها الجهات المختصة في فلسطين.

نحن الآن في نقطة تحول مهمة من متابعتنا ومواجهتنا وتغطيتنا لجائحة "كورونا" على مختلف المستويات، فعلى امتداد الأسابيع والأشهر الماضية ومنذ بداية هذا العام عاش العالم بكافة دوله وتجمعاته مخاطر جائحة (كوفيد -19 )، ووضعت الحكومات والمؤسسات والأسر والأفراد على محك المواجهة والتهديد، فالمخاطر تشمل مختلف المجالات السكانية، والاجتماعية والبيئية دون تمييز، وعليه قامت الحكومات والمؤسسات والأفراد بإجراءات الوقاية الاحترازية، وإجراءات العلاج للمصابين، كما تكشفت الفجوات بين القدرات والإجراءات بين الدول، ووضعت القيم الإنسانية، ومبادئ التعاون الدولي أمام اختبارات صعبة وحقيقية، وكشفت الأفعال وردود الفعل أولويات الدول، واختبرت سياسات وقوانين الدول في التعامل مع الأزمات والأوبئة العالمية، وصولاً لاختبار دور وقدرات المنظمات والمؤسسات الدولية المتخصصة في هذا المجال، ولعل تعالي الاتهامات الموجهة لبعضها بالانحياز أو التردد أو التأخر في استشعار مخاطر الوباء والتحذير منها، وصولاً إلى انسحاب البعض من عملية دعم تلك المنظمات كدليل على الارباك وحالة الفوضى والتشكيك التي واكبت مرحلة التصدي للفيروس ومخاطر تفشي الوباء دون رحمة.

وهذه الأيام تتخذ مختلف الدول والحكومات إجراءات التخفيف ورفع القيود التي كانت قد فرضتها منذ أشهر على مستوى التنقل والسفر داخل الدول ومع العالم الخارجي، الكثير والكثير يمكن أن يقال في سياق مراجعة الإجراءات والسياسات وردود الأفعال المبكرة والمتأخرة في مواجهة الجائحة، مواقف توزعت بين روح المبادرة التي تستند إلى أقصى درجات الانحياز لحياة الانسان كغاية للقرارات والسياسات، واتخاذ إجراءات متشددة لحماية روح الإنسان وسلامة المجتمع ككل وفق استشراف للمخاطر المستقبلية في حال تم التراخي المبكر عن الإقدام على قرارات وإجراءات حازمة وصارمة، وبين تلكؤ لا يعرف حتى الآن سبباً أو تبريراً له، حتى وقعت الواقعة وباتت إجراءات التدخل متأخرة جداً، ما وضع بعض الدول في مواجهة تحديات صعبة، لأنها لا تستطيع وقف أو إعادة الزمن إلى الوراء ولا يمكن تمرير الإجراءات الوقائية بأثر رجعي، ما وضع تلك البلدان على صفيح وبائي ملتهب.

نتعلم من أزماتنا ونستخلص الدروس والعبر، هذه هي الرسالة التي عبرت عنها مواقفنا كفلسطينيين في مواجهة الجائحة، نتابع ما يحدث داخلياً وخارجياً ونتفاعل مع الأحداث بما يخدم أمن وسلامة مجتمعنا، هكذا كانت إدارتنا للمواجهة على أرض الواقع يوماً بيوم، تجربة غنية وثرية ينبغي التوقف المشترك للاستفادة منها، ففي خضم المواجهة تنوعت الردود والمبادرات الرسمية المركزية، والمجتمعية والمؤسساتية والشعبية وصولاً لمبادرات وابتكارات فردية لمواجهة الوباء، وأفرزت تجربة فلسطينية مميزة بكل ما في الكلمة من معنى، وتجلت هذه التجربة في عديد المواقع والمدن، وأفرزت نماذج ينبغي التوقف أمامها للتوثيق والتقييم والتكريم لما كان له من دور وأثر في تعزيز صمود مجتمعنا الصحي في وجه التهديد الفيروسي، وأثمر عن تعاف متسارع مقارنة بباقي الدول ومقارنة بالمتوسط الإقليمي والدولي لفترة المرض قبل الخروج من الحجر الصحي، وكذلك معدلات الوفاة مقارنة مع حجم حالات الإصابة، كلها مؤشرات إحصائية تنطق بلغة البيانات والحقائق الرقمية يتوقع لذوي الاختصاص استنطاقها بالمزيد من المعلومات لإغناء وثيقة فلسطين في مواجهة "كورونا" رغم تواضع الامكانيات وقسوة الظروف بإرادة وكرامة تعانقان عنان السماء.

هذه التجربة وحدتنا كفلسطينيين على كافة المستويات، وحدتنا خلف قيادة تستبصر القادم من المخاطر وتبادر بإجراءات مبكرة للمواجهة، وحدتنا كمؤسسات في تكامل برامج العمل وفق الاختصاص ووفق توزيع خلاق للأدوار والمهام في الميدان، وحدتنا في المدن الرئيسية والتجمعات النائية ضمن التزام بإجراءات وخطط وتوجيهات ترقبها الأعين الساهرة على حواجز المحبة، وحدتنا كقطاع عام وقطاع خاص ضمن مبادرات مشتركة في "وقفة عز" لحشد الموارد والإمكانات لدعم صمودنا الاقتصادي وحماية مؤسساتنا وقطاعنا الانتاجي، وتقديم المساندة للرواد والمنشآت للبقاء على قيد الحياة الاقتصادية حتى تمضي هذه الجائحة بأمان وسلام على الجميع.

تجربة امتدت على مدى شهور، تنوعت فيها الأفعال وردود الأفعال، فتحت الباب على مصراعيه للمبدعين والمبتكرين والحريصين على تقديم ما يتوقعه مجتمعنا الفلسطيني من الجميع في قلب الازمة، ولا شك أننا كنا جميعناً على قدر المسؤولية، وهذا هو الأمل دوماً.

كلنا شريك ومسؤول عن تحقيق أقصى درجات الاستفادة من كافة الجوانب المتعلقة بتجربتنا في مواجهة جائحة كورونا، قبل أن تسرقنا الأيام التالية والقادمة وتتلاشى أو تنسى قصص النجاح الكثيرة التي تحققت في خضم المواجهة، ولذلك نتطلع لمبادرة وطنية تطلقها الجهات المسؤولة وبرعاية مركزية من حكومتنا الرشيدة، "خلوة مؤسسية" على المستوى القطاعي الوطني، تحت عنوان "دروس وعبر من مواجهة جائحة كورونا"، خلوة للجهات الحكومية لمراجعة كيفية الاستجابة للأزمة، كيف عملنا وكيف كانت النتائج لسياساتنا، وكيف كانت عملية تنظيم وممارسة الأدوار بين الشركاء والفاعلين في الميدان، أين نجحنا وأين اخفقنا، وما هي نقاط القوة ومجالات التحسين، وما هي الدروس والعبر المستفادة من تفاعلنا كجهات حكومية مع الأزمة، كيف نوثق هذه التجربة للاستفادة منها في قادم الأيام، سواء من خلال مشاركتها مع الأشقاء والأصدقاء، أو من خلال الرجوع اليها في مواجهة أي تهديد جديد.

"خلوة مؤسسية" لقطاع المؤسسات المدنية والقطاع الخاص، تناقش الأزمة وتداعيات التعامل معها من وجهة نظر المؤسسات، الصعوبات والتحديات، قصص النجاح والتميز، المبادرات والابتكارات، القيود ونقاط الضعف، مجالات التحسين الممكنة التي كشفتها احتياجات الأزمة من الخدمات والسلع اللازمة لتكون ضمن احتياطاتنا الاستراتيجية، الأدوات والسلع التي تكشفت الحاجة لأن تكون من بين خطوط انتاجنا وصناعاتنا الوطنية وليس الاعتماد فقط على استيرادها إذا وقعت الواقعة، فالاستيراد في ظل الأزمات يصبح خارج الامكانات، سواء بسبب الأسعار أو القيود أو قوانين واجراءات الحماية التي تتخذها الدول المنتجة والمصدرة لحماية احتياجاتها أولاً، وكذلك ارتفاع تكلفة الاستيراد بسبب حروب المضاربات والقرصنة وغيرها، ناهيك عن عامل الوقت وتأخر الشحن والوصول وجودة المنتجات ومدى التحقق من صلاحيتها للعمل في ظل ضغوط الاستيراد بأي ثمن!.

خلوة وطنية، تنخرط فيها المؤسسات والفعاليات الوطنية على مستوى كل تجمع كما كان حالها في مواجهة التهديد، خلوة للنقاش والحوار واستخلاص النتائج والدروس والعبر للمستقبل بروح إيجابية ومسؤولية وطنية عالية بِحكم حرصنا جميعًا والتفافنا في الداخل والخارج حول المصلحة الوطنية ممثلة بتعزيز صمودنا وبقائنا وهويتنا كعشاق للحرية والحياة الكريمة للجميع، فكلنا مسؤولون وكلنا شركاء في بناء فلسطين الدولة.

توثيق التجارب خطوة مهمة لتوثيق ثمرات المواجهة وقصص النجاح، وهي مناسبة مهمة لتقوية العمل الجماعي والمؤسسي خلف القيادة، وهي حفاظ على روح المشاركة المجتمعية لتبقى استعداديتها وعطاؤها عند حُسن الظن في كافة المحن والأزمات، ونجاح مؤسساتنا يشكل انتصاراً لمسيرة الشراكة التي أطلقتها الحكومة منذ بداية عملها لاستنهاض كافة طاقاتنا وقوانا لان القادم من الأيام قد يكون فيه صعوبات وتحديات أكبر، ولن نقوى على مواجهتها وتحقيق الانتصار إلا بفلسطين معافا