أعجبتني كثيرًا صراحة الرئيس الفرنسي ماكرون وهو يتحدّث لسفراء بلاده حول العالم، وأنصح الجميع بقراءة هذا الخطاب لأنّه قدّم تحليلاً واقعيًّا منطقيًّا للمتغيّرات المتسارعة في النظام الدولي وفي أوروبا تحديدًا.
قال ماكرون إنَّ الغرب بدأ يفقد هيمنته على العالم الذي فرضه منذ القرن الثامن عشر، وأوضح أنّه في ذروة عصر التنوير والحداثة كانت فرنسا هي مَن يسيطر، أمّا القرن التاسع عشر فكان قرنًا بريطانيًّا بسبب الثورة الصناعية، والقرن العشرين كانت السيطرة فيه للولايات المتحدة الأميركية.
الجانب الأهم في حديث ماكرون هو ما يتعلَّق بأوروبا اليوم، التي تحوَّلت من وجهة نظره إلى ساحة لحرب باردة جديدة بين روسيا وأميركا، وأنّه يرى أنَّ أوروبا تدفع ثمن صراع هي ليست بحاجته أصلاً. حلُّ هذا الإشكال، من وجهة نظره هو استيعاب روسيا أوروبيًّا وليس عزلها ومعاداتها، فهي في نهاية الأمر دولة أوروبية كما يقول.
ما أراد ماكرون قوله إنَّ من مصلحة أوروبا، إن هي أرادت أن تستعيد أمجادها وزمام المبادرة في النظام الدولي الجديد، يتطلَّب تصالحًا مع ذاتها أولاً ضدَّ كلِّ مَن هُم خارجها، ويقصد الولايات المتحدة والصين، كما يشير الرئيس الفرنسي إلى أنَّ أوروبا بدأت تفقد نفوذها في إفريقيا، وأنّ هذه القارة ستصبح ساحة صراع ملتهبة.
ما قدَّمه ماكرون هو رؤية جديدة لمستقبل أوروبا فهي أوسع من فكرة الاتحاد الأوروبي الذي تنهش به إدارة ترامب، خصوصًا مع تشجيع ترامب المستميت لخروج بريطانيا من الاتحاد حتى من دون اتفاق، وتنافس واشنطن موسكو على سحب دول أوروبا الشرقية حديثة العهد نسبيًّا في فكرة الاندماج الأوروبي.
ما لا يريده ماكرون هو ألّا تعود أوروبا ساحة الصراع لحرب باردة جديدة، تمامًا كما كان حالها في وسط الصراع بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة في القرن العشرين، والذي انتهى بهيمنة أميركية على العالم ووضع أوروبا كتابع لها. أمّا ما يريده ماكرون هو استنهاض أوروبا لأنَّ البديل فقدان الهيمنة تمامًا وأنّها ستتحوّل إلى شرق أوسط آخر يتصارع به الآخرون ولا حول ولا قوة له.
أيُّ متابع يلاحظ التراجع الأوروبي على الساحة الدولية، وقد لا أكون مبالغًا إذا قلتُ أنَّ أوروبا تقترب، في نظر ترامب وما يمثّله في أميركا، وربما بدرجة أقل في نظر بوتين من أن تكون رجل العالم المريض تمامًا كما كان يطلق على الإمبراطورية العثمانية وهي في حالة تراجع في القرنين الثامن والتاسع عشر برجل أوروبا المريض، والذي بنت أوروبا الاستعمارية هيمنتها على العالم انطلاقًا من ضعفه، وكنا نحن الفلسطينيين والعرب أهم ضحاياه سواء في "سايكس بيكو" أو مع "بلفور".
السؤال الآن هل سينجح ماكرون في استنهاض أوروبا أم أنَّ دعوته جاءت متأخّرة؟