يسير وحيدًا وغريبًا بين القبور. بيده باقة ورد وفي الأخرى شمعة.. هدّ الحزن منه الجسد وملامح الوجه. وصل إلى قبر ما زال حديثًا، فقط كومة رمل منعوفة منذ وقت قصير. انحنى ليغرس الورد ويضيء الشمعة. خانه الوقت، فطلقة في الرأس جعلته ينحني على الرمل، غارسًا وجهه فيه. حكاية حب دُفع ثمنها، جريمة شرف، وجريمة انتقام.
وفي بلد عربي آخر، حدَّثني أحدهم عن قريبة له.. ذات يوم بدت الأم، وعلى غير عادتها، بحنان يغلف قسوة دفينة، لم تكتشفها الابنة، إلّا في لحظات عمرها الأخيرة. تطلب الأم مساعدة ابنتها، في ترتيب المخزن. تصعد الأم عليّة مرتفعة. وتطلب من ابنتها تلقّي صندوقًا ضخمًا تناولها إياه، وما أن ترفع الابنة رأسها ويديها، تفلت الأم الحمل الثقيل على رأسها.. وبهدوء تخرج وتغلق الباب تاركة ابنتها تنزف دمًا وظلمًا.. يعود ولداها إلى البيت، ببرودة تخاطبهما.. اذهبا وادفنا أختكما! وتخبرهما، بأن اختهما على علاقة حُبٍّ مع شاب، وتخشى أنّها فقدت عذريتها! وحين سألا عن الشاب، أجابتهما.. لقد أرسلته قبلها إلى الأبدية!
عشتُ ما عشت من سنيّ عمري، ولم تسجل ذاكرتي، سماعي بمصطلح جريمة شرف، ولم تدخل تلك التسمية قاموس مفرداتنا. وأكاد أجزم بأنَّ ما يسمّى بجريمة شرف، وهو اعتساف وظلم للشرف، إنما برز وانتعش بعد ظهور الحركات المشبوهة الدور والأداء، وتلبّس لبوس الدين. وفي أكثر من بلد عربي، فشلت محاولات سنّ قوانين تتقدّم بها مؤسسات المجتمع المدني، لاعتبار جريمة الشرف جريمة كاملة مع سبق الإصرار والترصُّد. فحكم جريمة الشرف مخفَّف لا يتعدى الشهر أو الشهرين، آخذين بعين الاعتبار حالة الغضب التي تنتاب مرتكب الجريمة! ولا ينطبق القانون على المرأة، في حال تعرضها للأذى.. فحين شاع في مصر "مسلسل" قتل الأزواج، نتيجة الظلم غير المحتمل، حوكمت النسوة على جرائمهن، كجرائم عادية، وأخذن أحكامًا شاقّة مؤبّدة أو لمدد طويلة.
 تكمن في أحيان كثيرة، أسباب أخرى للقتل، تمارس تحت مسمَّى الشرف، إذ يكون مُنتهِك شرف البنت، أحد أفراد العائلة المقرّبين، أو ما يسمّى بسفاح القربى. وتكون الضحية قاصرًا، في معظم الأحيان، فيتمُّ تلفيق التهمة للفتاة خوف افتضاح أمر مَن يستحق هو أن يكون ضحية "جريمة أخلاق وشرف"! وقد يكون حرمان الفتاة من الإرث، سببًا آخر للقتل، والاستيلاء على حصتها. ولأنَّ الجرائم غالبًا ما تقوم على الشبهة وسوء الظن، فإنَّ براءة الفتاة تظهر بعد فوات الأوان.
 حديثًا، اهتدت عبقرية (!!) أب وأم إلى طريقة تجنّبهما حتى الحكم المخفّف لجريمة الشرف. فقد أقدم الوالدان على احتجاز ابنتهما في الحمام، وأجبراها على شرب السم.. فماتت البنت منتحرة!!
قد نحتمل على وجع، حين يرتكب الرجل جريمته، لكن حين تنفّذ الأم الحكم بالموت على ابنتها، أو تحرّض عليه، فهذا أمر لا يحتمله قلب! وأن يتحوّل حُماة الفتاة والأحضان الدافئة الحنونة إلى خنجر يُغمد في قلبها، فهذا ما لا نجده حتى في عالم الضواري.
نشهد في هذه المرحلة، ارتفاع منسوب جرائم الشرف، في المجتمعات العربية، وفي الدول الغربية. فأصحاب الفكر الظلامي من المهاجرين، يحملون في حقائبهم جميع موروثاتهم من الجهل والتخلُّف، موروثات اجتماعية، يتم إسباغ قداسة دينية عليها، فتشكّل إساءة صارخة تعزّز الإسلاموفوبيا. موضوعي ليس جديدًا، وكتبت فيه مرات كثيرة. لكن آلمني انتشار هذه الآفة الأخلاقية، في مجتمعنا الفلسطيني، بعد أن قطعت المرأة شوطًا كبيرًا في مجالات العِلم والعمل.
واستهداف المرأة الفلسطينية، بشكل خاص، وفي جميع أماكن وجودها، على كامل الأرض الفلسطينية، إنَّما هو نكران لتاريخها الحضاري والنضالي، منذ اندلاع الصراع الفلسطيني الصهيوني. وفي معركة الـ 36، وجدت في الخنادق مع الرجل.. ومسيرة نضالاتها منذ النكبة وحتى الآن باتت معروفة ومعاشة.
يكفي شعبنا ما يلاقيه من أنواع الموت: استشهاد برصاص الاحتلال. واستشهاد بالأسر الاحتلالي، وعلى الطرقات والحواجز، وتحت أنقاض البيوت المهدّمة، وشهداء لقمة العيش ممَّن يقضون أثناء عملهم، وشهداء حوادث السير التي نشهد كثرتها.. منجل الموت يتربّص بالفلسطيني في كل زاوية.. ألا يكفينا، حتى نأتي بجريمة مشرعنة لا يحاسب عليها القانون؟؟ نقدّر حجم التحديات التي تواجه السلطة الوطنية، من خيانات ومؤامرات، لكن يبقى استصدار قانون يحمي المرأة، ويعتبر جريمة الشرف، جريمةً بكل مقاييس الجرائم البشعة وأكثر، أمرًا ضروريًّا!