(صحيفة القدس:4/10)

في كلمته يوم 21 أيلول أمام الأمم المتحدة، أعلن الرئيس أوباما أنه سيستخدم حق النقض "الفيتو" ضد اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطينية، لأن استقلالها غير ناجم عن تسوية متفاوض عليها مع إسرائيل. وقال: "إن السلام يعتمد على التسوية بين الشعبين اللذين يجب أن يعيشا سوية طويلاً بعد الإدلاء بأصواتنا... وذلك هو الدرس الذي استقيناه من السودان، حيث أفضت تسوية متفاوض عليها إلى قيام دولة مستقلة، وتلك ستكون الطريق إلى قيام دولة فلسطينية -مفاوضات بين الأطراف".

لكن الرئيس أوباما تغافل عن ذكر مثال حديث بارز على الاستقلال أحادي الجانب: دولة كوسوفو التي كانت الولايات المتحدة قد اعترفت بها قبل ثلاثة أعوام، حتى مع أن تلك الدولة لم تظهر من خلال تسوية متفاوض عليها مع صربيا. وإذا كان الاعتراف بقيام دولة فلسطين المستقلة يجب أن ينال موافقة إسرائيل، فلماذا اعترفت الولايات المتحدة باستقلال كوسوفو في العام 2008، على الرغم من اعتراضات صربيا؟ ولماذا تم الاعتراف بكوسوفو ولا يتم الاعتراف بفلسطين؟

ينظر الصرب إلى كوسوفو على أنها مهد هويتهم القومية، لا سيما وأن الإمبراطورية العثمانية كانت قد ألحقت بهم الهزيمة فيها. وقد حافظت كوسوفو على الأغلبية الصربية فيها لقرون. لكنها أصبحت في أواخر القرن التاسع عشر مركزاً للصحوة القومية الألبانية، وكسبت في نهاية المطاف أغلبية عرقية ألبانية، وأصبحت من ثم جزءا من يوغوسلافيا الخاضعة للهيمنة الصربية، وذلك بعد الحرب العالمية الأولى. وبعد احتلال الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، جعلت الحكومة الشيوعية اليوغسلافية من كوسوفو مقاطعة في جمهورية الصرب، معترفة بحقوق الأغلبية الألبانية الكوسوفية. وفي العام 1989، خفض الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش وبشكل ضخم الحكم الذاتي في كوسوفو، متذرعاً بتهديدات موجهة للأقلية الصربية، في خطوة افتتاحية لحملته القومية من أجل صربيا الكبرى.

ومثل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات الذي أعلن السيادة الفلسطينية أولاً في العام 1988، أعلن الزعيم الألباني الكوسوفي إبراهيم روكوفا استقلال كوسوفو أولاً في العام 1990، ولم تعترف أي قوى أجنبية بكوسوفو في ذلك الوقت، لكن 127 دولة عضو في الأمم المتحدة اعترفت منذئذ بدولة فلسطين.

وفي العام 1998، اندلعت حرب أهلية بين القوات الصربية وجيش تحرير كوسوفو، ما أفضى إلى مقتل أكثر من 2000 شخص، واستهدف مقاتلو جيش تحرير كوسوفو المدنيين الصرب الإثنيين في المقاطعة، بالإضافة إلى الألبان الكوسوفيين المعتدلين، فيما استهدفت القوات الصربية المدنيين الألبان.

وكان الرئيس كلينتون قد قاد في شباط من العام 1999 حملة للناتو، والتي تم فيها قصف صربيا، وهو ما أفضى إلى حمل ميلوسيفيتش على وضع خطة "للتطهير العرقي" (أو الإزالة بالإكراه) للأغلبية الألبانية في كوسوفو، وهي الحملة التي بدأت بعد أن بدأت القنابل بالسقوط.

وعندما وصل جيش تحرير كوسوفو إلى السلطة بدعم من قوات الناتو في حزيران من العام 1999، قام بدوره بالتطهير العرقي الذي شمل آلاف الصرب والروما (الغجر) والأتراك واليهود من أراضيه، مستنداً إلى اتهام هذه المجموعات بالوقوف إلى جانب القوات الصربية. وكانت هذه المجموعات من الأقليات تعيش في كوسوفو لقرون، على عكس المستوطنين الإسرائيليين الذين تم زرعهم في المعظم بعد استيرادهم إلى الأرض الفلسطينية. وعندما وطنت صربيا بعض لاجئي الحرب الصرب في كوسوفو من الجمهوريات اليوغسلافية السابقة خلال التسعينيات من القرن الماضي، دانت واشنطن البرنامج كمحاولة لنقل الديمغرافيات في المنطقة. وظلت القلة من الصرب التي تعيش في كوسوفو منذ العام 1999 تتعرض لهجمات بين الفترة والأخرى، فيما هدد جيب صربي في الشمال من آن لآخر بالانضمام إلى صربيا، ما ولد زعزعة للاستقرار في الدولة الجديدة.

وحيث إن الأسطورة السائدة في الولايات المتحدة هي أن كلينتون قصف يوغوسلافيا السابقة لوقف التطهير العرقي، يعرف الناس في البلقان أن القوات الأميركية تدخلت ضد من يقومون بالتطهير العرقي الصربي، لكنها تدخلت إلى جانب من يقومون بالتطهير العرقي من الكروات والألبان. وفي أعقاب توقف القتال، صادق الناتو على النتائج على أرضية هذه الإزالات الاجبارية، واعتبر صمت المقبرة "سلاماً دائماً".

ثم أعاد برلمان كوسوفو إعلان الاستقلال في العام 2008، في تحرك قاطعته وفود صرب كوسوفو. وحتى الآن، اعترفت 83 دولة عضواً في الأمم المتحدة (بما في ذلك الولايات المتحدة) بكوسوفو -أي 44 دولة أقل من العدد الاجمالي للدول الأعضاء التي اعترفت بفلسطين. وطلبت صربيا من محكمة العدل الدولية إصدار حكم على الانفصال، حيث أصدرت المحكمة في العام الماضي رأياً استشارياً يفيد بأن إعلانات الاستقلال أحادية الجانب ليست محظورة بموجب القانون الدولي.

وتتمتع صربيا بقضية قانونية أقوى من إسرائيل للاعتراض على الاستقلال أحادي الجانب، ليس فقط لأن كوسوفو طردت معظم الصرب. ولم يتم الاعتراف بكوسوفو كجزء من يوغوسلافيا سوى قبل التسعينيات من القرن الماضي، ليس كجمهورية يوغوسلافية من تلقاء نفسها، وإنما كمقاطعة في جمهورية الصرب. ومن جهة أخرى، لا يتم الاعتراف بالضفة الغربية وغزة (ناهيك عن القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل) كجزء من إسرائيل.

وبالإضافة إلى ذلك، هدد مقاتلو جيش تحرير كوسوفو، بعد وصولهم للسلطة، وعلى نحو خطير وفاضح، أمن الدول المجاورة من خلال السعي إلى "تحرير" الألبان الإثنيين في مقدونيا الغربية ووادي بريسيفو الصربي عسكرياً.

والفارق هو أن كوسوفو واقعة تحت احتلال ائتلاف عسكري أجنبي يؤيد تقرير المصير الخاص بالأغلبية الإثنية الألبانية فيها. أما الضفة الغربية والقدس الشرقية، فترزحان تحت احتلال قوة عسكرية أجنبية تسعى للحيلولة دون تقرير مصير مواطنيها الفلسطينيين الذين يشكلون الأغلبية، وتسعى أيضاً إلى إحلال مواطنيها محلهم.

ترسل صربيا وإسرائيل، وبشكل ملحوظ، نفس الرسائل للغرب. فهما تقولان أن احتلاليهما العسكريين مبرران لمنع تكرار الإبادة العرقية الجمعية التي مورست ضدهما في الحرب العالمية الثانية. (لم تكن للفلسطينيين أي علاقة بهذه الإبادة، في حين كانت كرواتيا وألبانيا متحالفتين مع قوى الحلفاء). وتقدم صربيا وإسرائيل نفسيهما على أنهما أسوار تدافع عن الحضارة الغربية ضد التطرف الإسلامي، على الرغم من أن الحركات القومية الفلسطينية والكوسوفية بدأتا بهوية علمانية إثنية، وهي تضم أعضاء من الأقليات المسيحية. كما استخدمت صربيا وإسرائيل تبريرات دينية قديمة (مثل الأضرحة والمواقع الاثرية) لتواجدهما العسكري في الأراضي التي ليس لهما فيها غالبية ديمغرافية.

الاختلاف هو أن اللوبي الإسرائيلي في واشنطن يتمتع بقوة أكثر بكثير من اللوبي الصربي. وكان التطهير العرقي الجمعي الذي مارسه ميلوسوفيتش ضد الألبان الكوسوفيين (والكروات والبوسنيين ) أكثر حداثة زمنياً، وتم بثه تلفزيونياً، في اختلاف عن إجبار إسرائيل الفلسطينيين على الهجرة بالقوة من أراضي أجدادهم فيما يسمونه النكبة في العام 1948. ويظل جيش تحرير كوسوفو متورطاً في تجارة الهيروين لجمع أموال للقضية والنقد للثراء الشخصي. وقد اتهم القادة السابقون في جيش تحرير كوسوفو بمن فيهم هاشم ثاسي (الذي قاد الجيش الكرواتي في حملة التطهير الاثنية من الصرب) بالاتجار في الأعضاء البشرية. وتعد كوسوفو أيضاً مركزاً سيئ السمعة للاتجار بالجنس في البلقان، وخاصة مع تمركز القوات الغربية هناك. ومهما كانت شدة هذه الاتهامات الخاصة، فإن أياً منها لم تمنع الدعم الأميركي لاستقلال كوسوفو.

والفارق أن الحركة القومية الفلسطينية ليست متورطة في مثل هذه الجماعات الجرمية الدولية. ومن المؤكد أنه في حال اتهام أي قادة فلسطينيين بواحدة وحسب من هذه الجرائم، فإن اللوبي الإسرائيلي سيضخم الاتهام ويستخدمه كحجة ضد الدولة الفلسطينية، فيما سيردد البيت الأبيض صدى هذا الادعاء.

وتتلاقى فلسطين وإسرائيل على جوانب مختلفة في استقلال كوسوفو. وكان المستشار الرفيع للرئيس الفلسطيني محمود عباس، السيد ياسر عبد ربه، قد استشهد بمثال كوسوفو عن الاستقلال الاحادي الجانب عندما قال: "ليست كوسوفو أفضل منا. إننا جديرون بنيل الاستقلال قبلهم، ونطلب الدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي". في الأثناء، رفض وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان كلية الاعتراف بكوسوفو، مدعياً بأن استقلالها "موضوع حساس" يجب أن يكون جزءا من "حل سلمي شامل فعلاً" يتأسس من خلال المفاوضات. لذلك ترى الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء ثابتون في التمسك بالمثل الكوسوفي. اما الطرف غير المتمسك فهو الولايات المتحدة التي تعترف من جهة بدولة جديدة، ومن الجهة الأخرى توجه الضربات لدولة جديدة أخرى.

وربما يكون الفرق هو أن واشنطن تميل، منذ أيام وودرو ويلسون، إلى دعم تقرير مصير الشعوب من جانب واحد إذا كانت هذه الشعوب أوروبية بيضاء وحسب. والجانب الأهم الذي يصب في النقطة هو أن إسرائيل تخدم مصالح السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، لكن صربيا المسيحية الأرثوذكسية ظلت تاريخياً مصطفة أكثر إلى جانب روسيا.

لم تعترف الأمم المتحدة بكوسوفو لأن في ذلك سابقة سلبية للانفصال أحادي الجانب حول العالم. وينظر العديد من الدول في الجامعة العربية والاتحاد الاوروبي من الناحية الأخرى إلى كوسوفو على أنها سابقة إيجابية لفلسطين. وقد تعارض بعض الحكومات السيادة بالنسبة لكوسوفو وفلسطين على حد سواء، لكن الولايات المتحدة تقف فعلياً وحدها في دعم دولة كوسوفو، بينما تعترض في نفس الوقت على قيام دولة فلسطين. ويجب على الأميركيين أن يشرعوا في سؤال الرئيس أوباما: إذا كان لكوسوفو الحق في الوجود، فلماذا لا يكون لفلسطين الحق في الوجود أيضاً؟