منذ أن بدأت العلاقات الأميركية الرسمية مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1989 لم تحصل قطيعة بين الطرفين مثل ما هو حاصل اليوم مع إدارة الرئيس دونالد ترامب. حصل شيء من هذا القبيل بعد اجتياح العراق للكويت عام 1990 وما نجم عنه في حرب عام 1991، عندما وقفت المنظمة ضد توجيه ضربة عسكرية للعراق، وكانت تعمل على ايجاد حل بالطرق السلمية لسحب الجيش العراقي من الكويت على اعتبار أن ما حصل يمكن أن يحل في البيت العربي دون الاضرار بأي طرف.
القطيعة الراهنة تختلف لكونها ناجمة عن قرارات لإدارة ترامب تمس جوهر القضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني الاسرائيلي. والمقصود هنا اعلان ترامب بشأن القدس باعتبارها عاصمة لإسرائيل، وقراره بتخفيض الدعم الأميركي لوكالة غوث وتشغيل الفلسطينيين "الاونروا" الامر الذي يفسر أنه محاولة متعمدة لتصفية قضية اللاجئين تدريجيا.
الادارات الأميركية السابقة ومنذ مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الاوسط عام 1991، ومن ثم بعد اتفاقية أوسلو عام 1993 جميع هذه الادارات حاولت أن تعمل كوسيط بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي وبين الدول العربية واسرائيل. دور الوسيط له شروط ولو بالحد الادنى أولها الالتزام بمرجعيات عملية السلام، والتي حددها في مؤتمر مدريد بالارض مقابل السلام وقرارات الامم المتحدة خاصة القرارين 242 و338 وهي القرارات التي تؤكد عدم جواز احتلال أراضي الغير بالقوة، وضرورة انسحاب اسرائيل من الاراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في حرب عام 1967.
وبعد اتفاقية أوسلو والتي لها مرجعيات مدريد نفسها، كان على الادارات الأميركية - إدارة بوش الاب – وإدارة كلنتون وبوش الابن وصولا إلى إدارة أوباما، جميعها، ومن الناحة العلنية، اعلنت أنها ملتزمة بهذه المرجعيات وبما اتفق عليه الجانبان الفلسطيني والاسرائيلي في أوسلو.
وللتذكير فإن إعلان المبادئ أو اتفاق "أوسلو" الذي وقعته منظمة التحرير واسرائيل في واشنطن، اعتبر الضفة وغزة وحدة جغرافية واحدة، يجب عدم المس بالواقع بها حتى الانتهاء من مفاوضات الحل النهائي، الذي كان من المفترض أن تنتهي في عام 1999. مفاوضات الحل النهائي او الوضع الدائم كانت تدور، خلال مرحلة انتقالية مدتها خمس سنوات من تاريخه حول خمس قضايا: القدس، واللاجئين، والاستيطان، والحدود، والمياه.
جميع الادارات الأميركية وبالرغم من انحيازها المعروف لإسرائيل واعلانها المتواصل. التزام الولايات المتحدة بأمن اسرائيل وضمان تفوقها العسكري. كانت مع ذلك تلتزم لفظياً أو بالحد الادنى بأسس عملية السلام وترفض بتصريحات رسمية علنية أي خرق لها خصوصا بما يتعلق بالقدس والاستيطان. هكذا تصرفت إدارة كلنتون، والادارات اللاحقة وجميعهم لم يجازفوا بنقل السفارة الأميركية من تل ابيب للقدس أو أن يعترفوا بالقدس عاصمة لإسرائيل، بالرغم أن قرار الكونغرس بهذا الشأن صدر عام 1995. كافة الاتفاقيات والمبادرات التي رعتها واشنطن مثل خارطة الطريق وأنابولس وغيرها التزمت خلالها بالمرجعيات.
من يتحمل مسؤولية القطيعة اليوم هو ترامب وإدارته، التي انتهكت بشكل سافر القانون الولي وقرارات الشرعية الدولية، ولم تلتزم بقواعد السياسة الخارجية الأميركية. وتحديداً ما يتعلق منها بالقضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني الاسرائيلي. هذه الادارة هي التي تخلت عن دورها عندما وضعت نفسها في خندق الاحتلال والعدوان، وعندما قفزت عن مرجعيات عملية السلام وحتى عن الاتفاقات الثنائية.
على أية حال – لم يكن أحد من الشعب الفلسطيني لديه أوهام بخصوص الدور الأميركي، وانحياز الولايات المتحدة لإسرائيل والدليل، أننا لطالما نظرنا لأى اطار دولي أوسع للأشراف على عملية السلام نظرة امل، بل كان أحد مطالبنا التاريخية ألا تنفرد واشنطن بعملية السلام، لذلك تعاملنا مع كل المبادرات التي تتضمن اطاراً دوليا أوسع للإشراف على عملية السلام بإيجابية، وكان آخرها المبادرة الفرنسية عام 2016 وأذكر هنا بمطالبات الرئيس محمود عباس، بإطار شبيه بما تم مع الملف النووي الايراني خمسة زائد واحد أو خمسة زائد اثنان...
نعلم أن الولايات المتحدة هي من ساهم في بلورة الصهيونية ومشروعها، وساهمت في تأسيس اسرائيل وحمايتها عسكريا وامنيا وسياسيا ودبلوماسيا على الساحة الدولية وفي مجلس الامن، وكانت ولا تزال هي اكبر الممولين لهذا المشروع الاستعماري التوسعي. ولكن هناك واقع كان لا بد من التعامل معه وهو أن الولايات المتحدة هي الدولة العظمى الاكثر قدرة على التأثير على إسرائيل، فهي إن ارادت تستطيع اجبارها على اتخاذ قرار ذي بعد استراتيجي.
إن قبولنا بواشنطن وسيطا، كان في جزء منه نوع من السياسة الدفاعية، هدفها كسب الوقت لتعزيز الصمود الفلسطيني، وانتظار واقع دولي جديد أكثر مواتاه لتسوية أكثر عدلا، وخلال ذلك حافظنا على التزاماتنا التي تؤمن لنا وضعا لا نسمح له لإسرائيل تبرير اعتداءاتها على الشعب الفلسطيني بطريقة أكثر وحشية مما هي عليه الآن وواصلنا تمسكنا بثوابتنا الوطنية.
نحن لسنا مغامرين، ولكن نحن لن نفرط بأي حق من حقوق الشعب الفلسطيني. ندرك أن صراعنا مع الصهيونية هو صراع وجود، وهو صراع طويل معقد، فيه قدر كبير من الغدر والتآمر والتواطؤ، ونعلم أن كلمة السر في هذا الصراع هي الصمود على الارض والتمسك بالحقوق وبالأمل، لذلك علينا أن نتحلى أحيانا بفلسفة الصبر، والحقيقة الاكثر سطوعا أن ترامب زائل والشعب الفلسطيني سيبقى، لنكون أكثر ذكاء وأكثر صبرا ويقظة في مرحلة هي الاصعب.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها