افتتاحية مجلة "القدس" العدد 316 بقلم: رفعت شناعة
إن طبيعة القضية الفلسطينية، وطبيعة المجتمع الفلسطيني أنه يقوم على ركائز مُجتمعية، ووطنية، ومحطات تاريخية نضالية مميّزة، وهي التي أسهمت في تكوين البنية الفلسطينية المعروفة عبر التاريخ والقائمة على مفاهيم وتقاليد ومُثل أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من الشخصية الوطنية الفلسطينية التي واجهت التحديات والصعوبات، وقاومت الاحتلال، والاستعمار، والاحلال، وأسَّست بالتالي المشروع الوطني الفلسطيني الذي كُنّا وما زلنا نتفيّأ ظلالَهُ الوارفة، ونَعبرُ به من مرحلةٍ إلى مرحلة.
ولا يخفى على أحد أن منظمة التحرير الفلسطينية ومنذ العام 1969 بعد استقالة المرحوم احمد الشقيري من رئاسة المنظمة، واختيار الرمز ياسر عرفات رئيساً بالاجماع، فقد نجحت القيادة في بلورة برنامج سياسي وطني التفّت حوله كافة القوى الوطنية السياسية والنقابية والشعبية، ونجح ياسر عرفات رحمه الله بأن يؤسس منهجيةً متطوّرة في تنظيم العلاقات بين مختلف الفصائل والقوى الفلسطينية تقوم على الشراكة السياسية، والتعددية، والديموقراطية، ورفض الإقصاء والابعاد، وهذا ما حقق توافقاً وانسجاماً داخلياً رغم اختلاف الايديولوجيات القومية واليسارية، وهذا التوافق الداخلي سمح بالتالي لصبّ الجهود الفلسطينية بكاملها باتجاه عدوّ واحدٍ هو الاحتلال الاسرائيلي، وفي هذه السنوات المبكرة تمت الانجازات التاريخية العسكرية والسياسية، واستعاد شعبنا هويته الوطنية وكيانيته السياسية، وتنبّه العالمُ بأسره إلى عدالة القضية الفلسطينية. وأدّت منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني دوراً قيادياً مميّزاً لمجمَل حركات التحرر الثورية في العالم على أرضية معاداة الحركة الصهيونية وربيبتها العنصرية "إسرائيل".
هذا المشروع الوطني الفلسطيني، مشروع منظمة التحرير الفلسطيني ظلّ هو البيت الجامع للشعب الفلسطيني المكافح من أجل حقوقه وحريته، وقد استعاد المشروع الوطني قوّته وحضوره بعد العديد من الأزمات التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني خاصة في لبنان، سواء أكان اجتياح العدو الإسرائيلي لجنوب لبنان وصولاً إلى بيروت العاصمة المقاومة، أو الانشقاق الذي حصل داخل حركة فتح ومنظمة التحرير، إضافة إلى الاحداث المؤلمة التي حصلت في لبنان. وتمكّنت قيادة "م.ت.ف" أن تبلسم جراحها وتنطلق انطلاقة تاريخية جديدة من خلال إشعال الانتفاضة الأولى في الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة والقطاع، هذه النقلة النوعية في مسيرة الثورة الفلسطينية أعادت للمنظمة هيبتها، وللمقاومة حيويّتها، وللشعب الفلسطيني تماسكه واصراره على التحدي، وتجاوز المآسي التي حلَّت به، وكان الانتصار الرائع في الاداء الثوري لكافة الشرائح الفلسطينية، وتمكّن شعبنا بقيادته الحكيمة ورغم ضعف الامكانيات أن يعزل القيادة الإسرائيلية، وان يفضح المخططات الإجرامية والعنصرية، وان يعيد الاعتبار لشعبنا بأنه هو صاحب الحق، وهو الضحية، حيث يواجه الدبابة الإسرائيلية بالحجارة، والجنود بالمولوتوف والخناجر.
في هذه الاثناء أي بداية 1988 نشأت حركة حماس وأعلنت أنها ستقاوم الاحتلال بعد أن كانت مجرد جمعية دينية. وحاولت قيادة "م.ت.ف" التي كانت تخوض الانتفاضة بنجاح باهر أن تقنع قيادة حركة حماس بالانضمام إلى القيادة الموحّدة للانتفاضة من أجل توحيد الجهود والبرامج، إلاّ أنها رفضت لأنها لا تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية. والمنظمة تعاطت على أرضية محاولة الاستيعاب وعدم الاختلاف.
لكن في هذا الوقت بالذات نشأت المخاوف والريبة على مصير المشروع الوطني، المظلة التي اعتادت أن تجمع الجميع، وبدأت بعض الاطراف العربية المتحامِلة على قيادة "م.ت.ف" تستثمر الخلاف القائم في الساحة الفلسطينية خاصة بعد أحداث الخليج حيث تم قطع المساعدات المالية التي كانت تُعطى للمنظمة، وحُوِّلت لصالح حركة حماس، وهكذا أصبحت بذور الفتنة والخلاف مزروعةً في الساحة الفلسطينية، رغم المساعي الحثيثة من حركة فتح لتوحيد الصف الداخلي بوجه الاحتلال الذي أراد الاستفراد بالوضع الفلسطيني بعد أحداث الخليج المؤلمة والتي تطوّرت فيما بعد لتطيح بمقدرات، وطاقات، وكيانات العديد من الدول العربية التي أصبحت أكواناً من الدمار، أو الرماد، أو بحارًا من الدماء أو تلالاً من الجُثث والأوصال.
استبشرت "م.ت.ف" بمشاركة حركة حماس في انتخابات العام 2006، ونجحت حركة حماس في المجلس التشريعي، وأصبح من حقّها أن تشكل الحكومة، وكلّف الرئيس أبو مازن إسماعيل هنية بتشكيل الحكومة، وهو الذي فشل في تشكيل حكومة وطنية وانما كان كافة أعضائها من حركة حماس، لأنه أصر على كل من يشارك الالتزام بمشروع حماس السياسي، ورفضَ الالتزام كحكومة بما التزمت به السلطة، علماً أن حكومته جزء من السلطة بعد موافقة حماس الانضمام إلى أوسلو ومكوناته.
واضطر الرئيس أبو مازن المسؤول عن الحكومة أن يوافق على الحكومة التي كان برنامجها مختلفاً عن برنامجه كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية حتى لا يتمزّق الصف الفلسطيني، والرئيس حاول إقناع دول العالم بأن الحكومة حكومته، وانها ملتزمة به، علماً أن الوقائع كانت تقول غير ذلك، وهكذا أصبح للسلطة رأسان، وبدأت الخلافات تتّسع في الوقت الذي انسحب فيه جيش الاحتلال والمستوطنون من قطاع غزة، من أجل أن يتحوّل قطاع غزة إلى ساحة أحداث، وخلافات، ومواجهات مؤلمة. اليوم نحن نستذكر الانقلاب الاسود الذي حصل في 14/6/2007 والذي أسّس لانقسام خطير قسّم الوطن، ومزّق الوحدة الداخلية، وأفشل الاتفاقات الموقَّعة بين الأطراف الفلسطينية في القاهرة، وفي الدوحة، وصولاً إلى لقاء مخيم الشاطئ، والاتفاق على حكومة الوفاق التي لم تحمل لنا سوى الشقاق ومزيدًا من الصراع والنزاع، وأصبحت حكومة الوفاق التي صفّقنا لها طويلاً، ووضعنا على نجاحها الآمال العريضة مصدر خلاف. ولكننا عندما شاهدنا عملية إضعاف الحكومة ورئيسها واذلالها، واهانتها علناً في قطاع غزة على مسمَع ومرأى من الجميع أدركنا أننا كنا نراهن على خراب، وبالتالي دخلنا كمنظمة تحرير مرحلة خطيرة بات المطلوب فيها أخْذُ قرارات اكثر واقعية وليست بعيدة عمّا يجري ميدانياً، وكل الدلائل تشير بأنّ الوقائع تتنافى تماماً مع التمنّيات، والأحلام، والطموحات الوطنية ولا نبالغ إذا قلنا أننا أصبحنا جميعاً في دائرة الخطر لأن المطلوب على ما يبدو تدمير المشروع الوطني الذي يقوم على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية، وحق العودة استنادًا إلى القرار الأممي 194. ولا نبالغ أيضاً إذا قلنا أن هناك مشروعين مشروع تتبناه حركة حماس والآخر تقوده "م.ت.ف".
يجب أن تكون المواقف واضحة لأن الامر لا يحتمل المراوغة، فالفصائل الفلسطينية أهميتها أن تكون مؤتمَنة على شعبها، وأرضها، وقضيتها، ومقدساتها.
نحن اليوم أمام منعطف جديد خطير، والخيارات التي كانت سابقاً متعددة أصبحت اليوم محدودة جداً. الرئيس أبو مازن وبعد مرور سنة على تجربة حكومة الوفاق التي لم يُسمَح لها أن تعمل في قطاع غزة إطلاقاً، وترى حركة حماس أنها فاشلة طالما هي لا تلبي رغبات ومطالب قيادة حماس في غزة، فالرئيس يبحث عن مخارج ترضي الجميع لأنه لا يريد أن يصل الوضع الفلسطيني إلى مربع الخطر الحقيقي، ولذلك فهو قد طلب من اللجنة التنفيذية دراسة إمكانية تشكيل حكومة وحدة وطنية يتم اختيارها من القوى السياسية حتى تكون قادرة على تحمُّل المسؤولية التاريخية بإنهاء الانقسام وإجراء الانتخابات. كما وضع الرئيس اقتراحاً آخر وهو إجراء تعديلات على الحكومة الحالية حكومة الدكتور رامي الحمدلله لتجاوز بعض نقاط الضعف. وبإمكان حماس أن تختار بين الخيارَين حتى يكون هناك قاسم مشترك بين الجميع.
والرئيس اختصر الكلام بقوله: "ليس لدي مانع في تشكيل حكومة وحدة وطنية بمشاركة الجميع، بشرط أن يكون برنامجها السياسي هو برنامجنا، وان يلتزم به كل وزير من أعضائها". فالحكومة طبعاً تنفّذ سياسة الرئيس التي هي سياسة "م.ت.ف" ولا يجوز لوزير أن يخالف رئيسه، والحكومة هي تنفيذية، وليست هي التي تقرر المواقف السياسية، وهناك اتفاقات موقّعة ومُلزِمة للمؤسسات، ولكنها غير مُلزِمة للأحزاب والفصائل أي أنه ليس المطلوب من أي فصيل أن يعترف بوجود إسرائيل، لأنّ قيادة "م.ت.ف" هي المعنية بهذا الجانب، كما أن المنظمة أوضحت موضوع صلاحيات "الإطار القيادي المؤقت" وأنه ليس بديلاً عن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير التي يعترف بها العالم كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، والإطار المؤقت يؤدي دوراً في تقريب وجهات النظر بين القوى الفلسطينية حول القضايا الخلافية، ثم تُرفَع القضايا إلى اللجنة التنفيذية لأخذ القرار النهائي والملزم.
والمؤسف أنّ ما ورد على لسان عضو المكتب السياسي في حركة حماس زياد الظاظا هو إصرار على افتعال الخلاف وعرقلة المساعي: "إن حركة حماس لن تقبل بتشكيل حكومة جديدة ضمن برنامج الرئيس عباس الذي يلتزم بشروط الرباعية، وان الإطار القيادي المؤقت للمنظمة هو المخوَّل بتشكيل الحكومة وليس اللجنة التنفيذية".
كما أن موسى ابو مرزوق يقول: "أصلاً حكومة رامي الحمدلله كانت للضفة الغربية فقط، وحتى في موازنتها لم تخصّص قرشاً واحداً لقطاع غزة، ولم يقم بأي مشروع في قطاع غزة".
كلام أبو مرزوق ليس صحيحاً لأنّ ما يزيد على 50% من موازنة السلطة تُصرَف على قطاع غزة، وأثناء العدوان على غزة، كانت الحكومة تُفرِغ مستودعاتها في رام الله من الادوية والغذاء وغيرها، وترسل مئات الشاحنات إلى القطاع واستمر ذلك بعد وقف العدوان، والحكومة واصلت اتصالاتها مع الجهات الدولية كافة للحصول على المساعدات للقطاع، ولكن حكومة الامر الواقع في القطاع منعت حكومة الوفاق الوطني من أن تأخذ أيَّ دور لها في القطاع، ولا حتى على المعابر فلماذا هذا الافتراء؟!.
هل هي رسالة رفض لأي حل وحدوي والاصرار على حلول منفرِدة لا تخدم القضية الفلسطينية، أي الإصرار على حكم قطاع غزة، وعلى طريقتها، واستبعاد وحدة الارض والشعب، والاستمرار في الانقسام وهنا تكمن المأساة ولا بد من مواقف واضحة وإلاّ فإن المأساة تنتظر شعبنا وقضيتنا.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها