هيفاء داوود الأطرش

اثنان وعشرون سنة على إقرار الكونغرس الأمريكي لقانون " السفارة في القدس " منذ عام 1995 ولم يكن التأخير في عدم تنفيذ الرؤساء السابقين للولايات المتحدة الأمريكية لذلك القرار تكرماً منهم، بل هو اتفاق سياسي يندرج تحت عنوان ما أسمِّيه السياسة العنكبوتية التي تعمل على كل الخطوط منذ عهد الاستعمار القديم حتى اللحظة، فقد مرت مائة عام على دخول البريطانيين إلى القدس في 6 كانون أول 1917 ، وهو ذات تاريخ قرار ترامب الذي يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية إليها .

إذن هي ليست بالمصادفة، وكذلك فاللاعب الحالي بكيفية تأمين مصالح الدول الكبرى في زوايا كل دولة عربية ، والعمل الجاري على قدم وساق في الاستحواذ على النفط العربي أصبح في عهدة الاستعمار الجديد.

والقسمة حسب مراقبين سياسيين تم إعلانها في السر والعلن، تحت الطاولة وفوقها؛ فواشنطن تعد الأكراد بالحكم الذاتي مقابل الاستيلاء على حقول النفط والغاز وتقديمها للشركات الأميركية، أما روسيا فقد وقعت بروتوكولاً يتضمن ست اتفاقيات طويلة الأمد مع سوريا في مجال النفط في مدينة سوتشي الروسية، وتمسي صاحبة الحصة الأكبر من النفط السوري، في حين تسعى إيران للحصول على امتيازات نفطية في سوريا، كان آخرها مشروع لبناء مصفاة نفطية قرب مدينة حمص وسط البلاد، حسب المصادرالتي أعلنت ذلك .

وإنه من المعروف أن القوى الدولية تختار التوقيت المناسب كي ترسل رسائلها السياسية مبرِّرةً حروبها المتنوعة ومبينةً إصرارها على تأكيد قناعاتها ومعتقداتها؛ التي تعمل عليها عبر عشرات السنين تنفيذاً لاستراتيجياتها البعيدة المدى ، وهي تنتهي من صناعة قالبٍ على قياس كل قضيةٍ، فتبدأ بصناعة آخر لضمان البقاء لتلك القوى العالمية .

فها هي حركة الصهيونية المسيحية في أمريكية وهي الحركة المسيحية المتطرفة ، التي تؤمن بالعودة الثانية للمسيح وأن هناك شروط لعودته منها وجود الهيكل ، وأن يكون هناك صهيون وهم الاسرائيليون .

وباعترافهم بالقدس عاصمة إسرائيل ، والذي يعتبر مخالفاً للقانون الدولي المـُشـَرِّع بأن القدس الشرقية عاصمة لفلسطين ،فإنهم يمهدون لتنفيذ المرحلة الثالثة من مخطط الصهيونية وهوهدم المسجد الأقصى من أجل بناء الهيكل المزعوم .حيث أن التمويل جاهزاً في درج المؤسسة الإسرائيلية؛ فمن يمولون بناء المستوطنات في الضفة الغربية والقدس، هم أنفسهم من يمولون لبناء هيكلهم المزعوم.

و يعتقد الأمريكان أنهم يستطيعون الاستمرار في تنصيب أنفسهم كولاة الأمر والآمر الناهي في العالم ، وهذا ما برز مؤخراً في الوثيقة الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية ، والتي تطلب من مسؤولي السفارات والبعثات الأمريكية في العالم ، طرح النقاط الموجودة في الوثيقة للنقاش وتطلب منهم التوجه للمسؤولين الأوروبيين للإدلاء بتصريحات سياسية تؤكد أن قرار ترامب باعتبار القدس عاصمة إسرائيل ونقل السفارة إليها ،لا يؤثرعلى قضايا الحل النهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين من أجل التوصل إلى اتفاق سلام ؛ خوفاً من تداعيات القرار التي اشتعلت كالنار في الهشيم .

كما تؤكد تلك الوثيقة من خلال مخاطبة سفاراتها على إيغالها في الفجور السياسي بما جاء فيها " أنتم تعلمون أن هذه إدارة فريدة، تتخذ خطوات جريئة، لكن الإجراءات الجريئة هي ما سوف تقتضيه الضرورة من أجل إنجاح جهود السلام أخيراً".

ورغم إعلان الأمين العام للأمم المتحدة غوتيرش رفضه للقرار واعتباره مقوضاً لمفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية؛ واعتبار منظمة العفو الدولية قرار الرئيس ترامب بأنه قرار طائش ويستخف بالقانون الدولي وحقوق الشعب الفلسطيني؛ والتأكيد السابق لمنظمة الأمم المتحدة للترية والثقافة والعلوم "اليونيسكو" أن لا علاقة تاريخية بين اليهود والمسجد الأقصى ، والإجماع الدولي على رفض قرار ترامب ، إلا أننا نجد أن الجهود الدولية المعلنة قد اتخذت مساراً آخر، يصب في جمع الطرفين حول طاولة المفاوضات من جديد، ولو ظهر رفضه للقرار ، فالرفض لاعتبار القدس عاصمة إسرائيل من قبل أمريكا لايعني استعادة حقوقنا كاملة ، بل ما يظهر من تلك الجهود المجمعة هو الحفاظ على التوجه نحو المفاوضات؛ وكلا الطرفين المضاد والمناصر يسعون لنقطة الجلوس على الطاولة لكن كلٌ بطريقته .

لذلك على الفلسطينيين استثمار المواقف الدولية والإجماع الدولي الحالي ضد قرار ترامب ، بأسرع ما يمكن ، وأن تفتح القيادة الفلسطينية الشرعية بقيادة الرئيس محمود عباس بدورها خطوطاً متعددة لفرض خيارات تضمن المصلحة الفلسطينية في إعادة الحقوق على الطريقة المتفق عليها من قبل الطرف الفلسطيني، وربما في إيجاد حلفاء دوليين أكثر فاعلية .

أيضاً أن يبدأ الاستثمار على الصعيد الشعبي الفلسطيني في الوطن والشتات وأن لاتقتصر على الصعيد الدولي ، فالخلفية الجماهيرية تقوي جبهة الدور السياسي الفلسطيني على كل الصعد ، والتحرك في كل الاتجاهات يستدعي تـَلـَمـُّس نقاط التأثير في الشارع الفلسطيني والعربي والاسلامي ، وأن تفتح قنوات اتصال معها من أوسعها إلى أضيقها ، لتأمين جبهة مؤازرة للجبهة الفلسطينية ، لأن المأجورين لا تزال جيوبهم غارقة برشاوى الدم والفساد وحرق الرموز الفلسطينية والوطنية وعلى رأس هذه الرموز الرئيس الفلسطيني محمود عباس والقيادة السياسية الفلسطينية؛ وإنَّ تـَدَفـُّق الأموال تلك يهدف إلى تغذية مشاريع إفراغ الشارع الفلسطيني من الثقل الوطني وذلك من

خلال ضرب ثقتهم بحاملي لواء القضية الفلسطينية عن طريق صناعة الميديا والاعلام المشوه للحقيقة، والذي لا يمكن أن ننكر أثره البالغ والخطير، وهذا بهدف إجهاض نتائج أي استفتاء شعبي فلسطيني على قضايا الثوابت لاحقاً.

وإن كانت الهبـَّات الشعبية والعربية قد أثلجت الصدور من خلال التظاهر واستنكار المواقف التي تستهدف القدس، فإن ذلك يجب أن لا يشجع على الركون والاطمئنان الذي دام لعشرات السنين دون تقوية الجبهة الفلسطينية الداخلية وحتى العربية.

وإن كان هناك جموعٌ تنتفض لنصرة القدس، فإن خلف الأكمة من يترصـَّد بموجات التحرك الشبابي الفلسطيني في دول الطوق ، من أجل استغلاله بطرقٍ شتى هدفها في النهاية إبعادهم إلى أقصى بقاع الأرض لاجئين كمن سبقهم إلى البلاد الباردة ؛ والمطلوب هو استثمار دور الشباب الفلسطيني الذي لايزال يحمل حباً لبلادهم لا حدود له، ينمو مع كل دفقة دم في عروقهم ، لكن شيفرةً يحاول الغرباء زرعها في عقول أولئك الشباب لاستدراجهم بطرقٍ تدعى الوطنية، وهي في الحقيقة السم في الدسم ، والتي تستهدف في النهاية، المشروع الوطني الفلسطيني الذي استشهد دونه الرئيس الشهيد ياسر عرفات ، والذي يتم تهديد خليفته الرئيس أبو مازن باستهداف حياته بسبب تمسكه بالثوابت الفلسطينية .

فحذاري من سياسةٍ عنكبوتيةٍ متشابكةٍ تعمل على أدق التفاصيل وبطرق استخباراتية ، نشهد مفاجآتها في خبرٍ يطل علينا كل صباح ، ويستمر تأثيرها ضمن تأمين مصالح المتخاذلين الضيقة ، فمن يقع في شباكها سيكون همه الوحيد أن يكون جلده سالماً ، وخاصةً في ظل التضييق والحصار المالي والضغط السياسي على الفلسطينيين، حيث تصبح العلاقة مطردة فكلما زاد التضييق على الفلسطينيين، ارتفعت تسعيرة الجوسسة في أجواء الجياع للكرامة قبل الأمعاء.

فالتسارع السياسي المشهود في كل الاتجاهات العربية والإقليمية والدولية يستدعي من العرب والفلسطينيين خاصة إقامة خلايا أزمة متعددة الاختصاص وعلى مستوً عالٍ؛ والنصر يومئذٍ لمن يصمد في ساحة معركة عـَضِّ الأصابع، حيث نفذت كل مسكنات الألم .