القرار الترامبي بإعلان القدس عاصمة إسرائيل ونقل سفارة بلاده على أراضيها، قد أشعل نيران الغضب والكراهية للولايات المتحدة في المنطقة والعالم الإسلامي والدولي، فهذا الرئيس قد أفقد بلاده دورها الإنساني والأخلاقي والقيمي، قبل أن يفقدها دورها السياسي في معالجة أزمات المنطقة وإطفائها.
الرئيس ترامب وإدارته قد أخفقوا في بناء جدار يفصل بلادهم عن المكسيك، ونجحوا وبسرعة البرق في بناء جدران الكراهية بين بلدهم والعالمين العربي الإسلامي، فهو قد أعطى شارة البدء بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، وقد يكون الأمريكي الأول الذي خرج على مألوف السياسة الأمريكية منذ العام 1967، وانتهك أعرافها ومواثيقها المتوارثة بين الرؤساء السابقين من جمهوريين وديمقراطيين على حد سواء، ويكون قد سجّل أفدح تجاوز على قرارات الشرعية الدولية، حول القدس في العام 1980 وكافة القرارات الدولية ومواقف مختلف عواصم القرار الدولي.
إن الأمر الذي يثير للسخرية حقاً أن الرئيس الأمريكي ترامب يحاول أن يلائم خططه وسياساته الخاطئة في منطقة الشرق الأوسط عامة وعلى المنطقة الفلسطينية على وجه الخصوص على معايير فهم القيادات الإسرائيلية وتصوراتها لحسم الصراع، ولهذا يمكننا القول أن هذا الترامب الأرعن لن يجبر أو سيؤثر على القيادة الإسرائيلية مطلقاً أياً كان لونها الحزبي على دفع إستحقاقات السلام العادل والشامل في المنطقة، متلهياً بأرجوحة ما يسميه مكافحة الإرهاب وذلك بصورة مقصودة للقفز عن المحرك الأساسي لكل أعمال العنف في منطقة الشرق الأوسط وهو الكيان الإسرائيلي بالتحديد.
هذا التجاهل الأمريكي للحقوق الفلسطينية المشروعة قد يسعر ويلهب المنطقة بأكملها في المستقبل القريب، ويبدو أن ترامب لا يرى الواقع إلا بعين واحدة بعد أن دك الفلسطينيين مراراً وتكراراً ومزقت جرافات الاحتلال خارطة الطريق التي وضعها سلفه اوباما وسقط آلاف الشهداء والجرحى من الشعب الفلسطيني، وهذه بحد ذاتها كافية لرفع وتيرة الكراهية والحقد مما يذخر الأجيال القادمة بالطاقة اللازمة لاستمرار الصراع الدموي بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي.
أن حقيقة الصراع المحتدم حالياً مع الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني هو ما يتركز حول محاولتهم كسر السقف السياسي الفلسطيني ليقع هذا السقف في شباك الحلول المرحلية الطويلة الأمد، والتي تنطوي في حقيقة الأمر على شطب بعض القضايا الأخرى، وهو الأمر الذي رفضه الشعب الفلسطيني سواء بالصورة التي وردت لدى شارون وأولمرت أو بالصورة الأكثر سوءاً وسوداوية والتي ترد الآن في تصورات نتنياهو. ولقد أظهرت القيادة الفلسطينية ثباتاً حازماً للحقوق الوطنية المقدسة التي تهمه، وما زال الموقف مستمر في ثباتهم في أحلك الظروف وأصعبها، لأن المطلوب يخترق الحد الأدنى للحقوق الوطنية الفلسطينية.
فإذا كان ترامب ونتنياهو يدركون أنهم يجازفون بهذا الاحتمال ويستعدون له، فإنهم بذلك يكررون عمى الألوان لكل الذين راهنوا على ركود اللحظة أو صبر الانتظار. فإن أي انفجار قادم سيكون أكثر قسوة وصعوبة من كل ما سبقه، وسوف يترك أثاره بأطول أمد من كل ما سبقه، لذلك فإن الرهان من منطلق ومنظور تفوق القوة العسكرية الأمريكية والصهيونية هو كعب أخيل لكل الغزاة والمحتلين
إن أمريكا وإسرائيل وحكوماتهم ما زالوا مستغرقين في عالم الوهم الصهيوني، فشعب فلسطين ليس مجموعات سكانية هامشية يمكن مسحها أو سحقها عن الخارطة الجيوسياسية، برغبة من تجار وسماسرة ومقاولين حروب مغرورين، أمثال ترامب، وبنس وهايلي، وليبرمان، وبينت، ونتنياهو، واشكنازي، وأن في فلسطين المحتلة شعباً قوياً وطنياً متوقداً يعشق وطنه، لا يكل أو يمل ولا يتوانى عن تقديم روحه من أجل تحقيق أهدافه المشروعة الوطنية، ورغم أن المعركة مع ترامب وبيبي نتنياهو حبيسة دائرة الوهم الصهيوني التي ترمي إلى تركيع الشعب الفلسطيني ومصادرة حقهم التاريخي ما زالت طويلة، فإن التاريخ سيثبت أن الكفاح الفلسطيني المرير ضد أقذر احتلال عرفته البشرية لم يذهب ولن يذهب هدراً، وإن النظرية السوداوية العقيمة التي يتبناها كل من ترامب ونتنياهو غير موجودة إلا على صفحات كتب الأساطير اليهودية التي اندثرت منذ آلاف السنين في هوة الماضي السحيق.
إن ما يجري الآن داخل الكيان الصهيوني حالياً مثير للقلق حول مستقبل المنطقة برمتها لأن هذا الكيان المارق المحتل يعيش في هذه الأيام حالة طوارئ أمنية قصوى على امتداد تسعة وستون عاماً مضت وهو حتى الآن بلا حدود معلنة ولا هوية ولا مبادئ ثابتة، وهذا يدلل على عدم وصول الزعامات الصهيونية إلى مرحلة الإدراك والفهم السياسي الحقيقي.
هذه النتيجة ليست إلا المقدمة التي أعدها كل من ترامب ونتنياهو ليجهزوا على ما تبقى من قيمة معنوية لعملية السلام، وهنا يبدو مخططهم الشيطاني العدواني أكثر وضوحاً يستهدف قلب الطاولة واستبدال شعار الأرض مقابل السلام بالأمن مقابل السلام.
إذا فالخطر يتصاعد في ظل إغلاق الأمريكان والإسرائيليين بوابة الأمل بتنكرهم الواضح لكل الحقوق الفلسطينية، وإن مرحلة تحقيق الاستحقاقات المقدسة لدى الشعب الفلسطيني، تعتبر من أدق وأخطر المراحل فمن الواجب في مثل هذه الحالة التحلي بالصبر وسبرغور ما يجري من حولنا، خاصة وأن العالم أصبح الآن في مهب الرياح الأمريكية والتي تتغير فيه الأشياء تغير الرمال في الصحراء، فلا ثوابت إلا المتغير، الأمر الذي يستدعي منا المرونة وسرعة الحركة، ليس على الصعيد التفاوضي إذا حصلت، بل على صعيد ترتيب أولوياتنا ومواصلة المواجهة الدبلوماسية على كافة الساحات والميادين، مع الأخذ بنفس الوقت بعين الاعتبار متطلبات واقع شعبنا المعيشي والاقتصادي.
لذلك يجب أن ندرك المخاطر بدقة شديدة، وأن نواجه ذلك بصلابة وثبات وعزيمة لا تلين، لأن إذا كان الخيار أمامنا، أما الانتهاء بالاستشهاد أو الانتهاء بالسقوط السياسي، فيجب أن يكون واضحاً وجلياً إننا سنختار الشهادة بكل أباء وإيمان، لأن الحرية والكرامة والاستقلال لهم ثمن واحد هو التضحية والإيمان بالهدف والتصميم والثبات.
إننا نواجه وضعاً معقداً وشائكاً يحاول كل من ترامب ونتنياهو من خلاله أن يضعونا أمام أحد أمرين:
إما السقوط في مستنقع الحرب الأهلية والاقتتال الفلسطيني الفلسطيني من جديد وخاصة في الضفة الغربية، وأما خسارة الوضع الدولي والوقوع في العزلة الدولية، وذلك من خلال تمرير متطلبات تحمل بذرة التخريب والتعجيز والترهيب والخداع في داخلها.
وبدون أدنى ريب أو شك فإن الخيار الأول هو خيار قاتل، ويصب في كسر موازين القوة للشعب الفلسطيني، بل والأبعد من ذلك سوف يصب في خيار الترحيل والهجرة الجماعية التي يتطلع إليها قادة العدو الإسرائيلي من خلال توفير مقوماتها ودوافعها.
وكذلك فإن الخيار الثاني هو خيار قاتل أيضاً من خلال فرض العزلة والطوق الدولي وهو الأمر الذي يظهر بعض ملامحه عندما نجد الصمت يلف العالم كله إذا أغلقت مفاتيح الإدارة الأمريكية بهذا الخصوص.
إذا يجب أن ينصب النضال الآن على عدم الوقوع في الخيار الأول أو الخيار الثاني، وهو ما يتطلب أن نسير على خط توازن دقيق وصعب يتطلب منا أحياناً المحافظة على أعلى درجات التفاهم الفلسطيني الفلسطيني، وفي الأحيان الأخرى على نوع من أنواع الاستجابة لبعض الاستحقاقات لتجنب العزلة أو التعارض مع العالم.
إن نتنياهو بإجراءاته يحاول أن يجعل هذا الخيار مستحيلاً ويصعبه في كل إجراء، بهدف الوقوع في الخلل والسقوط بالتالي في إحدى الجريرتين، ويساعده في ذلك الموقف الأمريكي المنحاز الذي يعطيه الفرصة والمساعدة، ويتجه بالضغط نحو الشعب الفلسطيني وقيادته السياسية ضمن عملية مفتوحة لاحتمالين.
الأول: إجبار الشعب الفلسطيني على التنازل عن سقفه السياسي الأخير، وهو ما يعني الوقوع في الهاوية.
والثاني: إضعاف قوى وأركان القيادة الفلسطينية لتصبح آيلة للسقوط بمعادلة ممكنة أو سهلة.
وتنطلق هذه المحاولة من صلف القوة والتفرد، وخاصة في ظل العلاقات الدولية الجديدة وانهيار اغلب النظم العربية السريعة والسهلة، وطغيان الاعتبارات والمصالح المتعلقة بوضعية ودور اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة.
إذن إن الولايات المتحدة تفتح الباب على مصراعيه، وبالمقابل فإننا أيضا نبذل كل المجهودات ولكن على قاعدة واحدة الجاهزية القصوى لمواجهة قدرنا، وسلاحنا الأساسي هو تصميم الشعب الفلسطيني واستعصاء الرقم الفلسطيني الصعب، وإنه لا فارق في نهاية الأمر بين نهاية ونهاية إلا بالكرامة والإباء والشموخ والفداء.
ما من شك أن من واجبنا أن نقيم الظروف جيداً، وأن ندرك المخاطر جيداً، وهو الأمر الذي يتطلب أمانة المراجعة لما هو سلبي، والاستمرار فيما هو إيجابي.
ومن البداية يجب أن ندرك ونؤكد على ما يلي:
أولاً: أن خط الانتفاضة الباسلة والمقاومة المشروعة للاحتلال هو الخط الأساسي لصمود ووحدة الشعب الفلسطيني.
ثانياً: أن تنقية هذا الخط من الشوائب في التفاصيل هنا وهناك، ومن سلبيات في الأداء هنا وهناك وهو أمر أساسي.
ثالثاً: يجب أن نلتزم بقيمنا النضالية من ناحية، وبضبط الأداء والتكامل من الناحية الأخرى، بكل معانيها، لأن القيم النضالية الإنسانية هي من خصائص النضال العادل، ولأن ضبط الأداء من مستلزمات خوض الصراعات.
فلا يجوز أن تتعارض المجهودات، فيجب أن تصب جميعها في اللحظة المطلوبة في قناة التوجه المطلوب، وإلا فإن تعارض المجهودات يؤدي إلى تدمير إمكانيات الإنجاز أو الحصاد ويرتد بالنتائج السلبية.
وعلى الجميع أن يدرك أن أوراق قوتنا الأساسية ما زالت بأيدينا وأن الشعب الفلسطيني غير قابل للخضوع أو الانحناء أو الاستسلام، وأن الحرب النفسية ومحاولات الترهيب والترغيب والتدمير المعنوي وترهات بعض الطروحات في مزادات التخبط السياسي والإشاعة والتخويف، هي زبد سيذهب جفاء، وهي اعراض سيغمرها بحر الرسوخ الفلسطيني.
إذن علينا أن نجيد إكتشاف الخط الدقيق بين إعتبارات متناقضة وبين نزعات خاطئة، سواء ذات اليمين أو ذات الشمال، وأن تستمر في الصمود وفي رسوخ الإرادة والتصميم، وأن ندرك إنه كلما أقترب الفجر إحتدم الصراع.
وعلى الجميع أن يدركوا أن قضية فلسطين والشعب الفلسطيني لا تنتهي إلا بالعدل، وان العدل وحده هو الأساس للسلام والإستقرار والأمن.
أخر الكلام:
يجب أن يدرك الجميع وفي مقدمتهم الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني إنه وفقاً لحرية وحقوق وكرامة الفلسطيني يتقرر السلم واللاسلم، الحرب أو اللاحرب، إكتمال المعادلة الإقليمية أو عدم اكتمالها.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها