بقلم: ميساء بشارات
في قلب الطبيعة الجبلية الوعرة، وبين صخور وسهول قرى محافظة نابلس وأوديتها، تبحث المسنة أم جهاد من قرية عقربا عما تبقى من نبتة العكوب، النبتة الموسمية الشوكية، التي تحمل في أشواكها مرارة الاحتلال، وفي أوراقها طعم التراث والمائدة الفلسطينية الأصيلة.
تقلب أم جهاد بيديها اليابستين تراب الأرض بحثًا عن العكوب النبتة البرية القاسية، التي تطهى على موائد النابلسيين كأغلى ما تجود به الأرض في فصل الربيع.
لكن العكوب أسعاره غالبًا مرتفعة تقفز إلى مستويات قياسية، ففي أسواق المدينة، يتراوح سعر الكيلوغرام الواحد ما بين 50 إلى 80 شيقلاً وذلك حسب جودته ونظافته.
تقول أم جهاد: "كنا نطلع نلقط العكوب من الجبال ونرجع فيه دون أي مضايقات، بس اليوم قطافه محفوف بالمخاطر والجبال مليانة مستوطنين، وإذا شافونا بطخوا بالهواء ليرعبونا او بسرقوا الي معنا ولهيك صرنا بس نحس فيهم نهرب أحسن ما يعملوا فينا اشي".
وتضيف: "أصبح المستوطنون يمنعوننا من الدخول لأراضينا القريبة من المستوطنات ويعتدون علينا. والعكوب ليس مجرد نبات، إنه رمز للصراع على الأرض، ورمز للتمسك بالتراث، ففي كل شوكة من شوكه، حكاية صمود".
وتتابع: إن العكوب بدو صبر، ونفس طويل لتجده، وأحيانًا يحتاج البحث عنه لساعات من التجوال تحت الشمس، في أراضٍ وعرة قد تكون مليئة بالأفاعي.
ووفق تقرير صادر عن هيئة مقاومة الجدار والاستيطان لعام 2024، تم تسجيل أكثر من 120 اعتداء للمستوطنين في موسم العكوب وحده، معظمها ضد نساء وأطفال كانوا يلتقطون العكوب بحثا عن مصدر دخل موسمي.
وفي زقاق السوق وسط نابلس، يعلو صوت التاجر صبحي عميرة، بائع خضار مخضرم، بسطته عامرة بالعكوب بمختلف أنواعه، ينادي على بضاعته بصوت أجش: "عكوب بلدي طازة.. من الخليل".
وقال عمير، عن تجارة العكوب: "هاي النبتة إلها زبونها.. إلها ناسها.. وفي زبون بينتظر الموسم على أحر من الجمر بغض النظر عن سعره".
وهو يرتب بعض عيدان العكوب فوق بعضها بعضًا يقول: "إن الإقبال ممتاز كالعادة، رغم ارتفاع السعر. الناس تعتبر العكوب جزءًا من ثقافتها، اليوم الكيلو 80 شيقلاً، ومع ذلك فالزباين لا تكف عن السؤال عنه".
ويشير عميرة إلى أن مصدره حاليًا من الخليل، ويبيعه بمختلف أنواعه النظيف وغير النظيف ولذلك يختلف سعره.
ويتابع وهو يبيع أحد زبائنه: "إن العكوب رغم سعره المرتفع لا يتراجع الطلب عليه في موائد النابلسيين، فهو أكلة تذكرنا بطفولتنا وأجدادنا".
ويشهد سوق العكوب مع نهاية فصل الشتاء وبداية الربيع، حركة نشطة، خاصة في نابلس، حيث يعتبر هذا الطبق طبقًا تراثيًا بامتياز.
وفي زحمة السوق وقفت الحاجة أم إياد، سيدة ستينية من مخيم عسكر، تتفحص العكوب بدقة، وقالت دون تردد: "العكوب بالنسبة لي مش بس أكل.. هو ذكرى.. كل ما أطبخه، بتذكر أمي الله يرحمها كيف كانت تطبخه بالدار وتعبي الحارة من ريحته، وتقول: هذا أكل الغوالي".
وحول سعره إن كانت تشتريه وهو غالٍ، تقول: "بشتري كل سنة ولو مرتين أو ثلاثة، كل مرة كيلو بيكفيني اعمل طبخة تلم العيلة".
وتتابع وهي تختار العكوب بعناية فائقة هو طعم الربيع، وريحة الأرض، ما في نبتة بتشبهه، لا بالطعم ولا بالشعور، حملت كيس العكوب بيدها وغادرت وهي تقول: "بكرا الغدا عكوب.. خلي الأولاد يعرفوا شو يعني أكل بلدي عن جد، وتظل هالأكلة ذكرى طول عمرهم يتوارثوها".
- العكوب من التلقيط إلى الزراعة التجارية
في ظل المخاطر، بدأ البعض بتحويل العكوب من نبتة برية إلى مشروع زراعي. تقول المهندسة الزراعية وصاحبة مشتل أكناري فلسطين للتنمية الريفية المستدامة في بيت ليد/طولكرم رنا الكوع: "هناك تجارب ناجحة لزراعة العكوب في أراض خاصة، باستخدام أنظمة ري وتقنيات حديثة، موضحةً أن تكلفة الزراعة مرتفعة لكنها توفر محصولاً مضمونًا وآمنًا".
وتتابع: إن هذا الاتجاه يعكس تحولاً في التعامل مع النباتات البرية، من مجرد جمع تقليدي إلى استثمار زراعي ذكي، ومصدر دخل.
كوع، صاحبة المبادرة، أوضحت أن ما شجعها على بدء مشروع زراعة أشتال العكوب منذ عام 2018، كان شعورها بالخطر الذي يحدق بهذا النبات التراثي، ليس فقط بيئيًا، بل ووطنيًا، في ظل ما يتعرض له قاطفوه من ممارسات قمعية تبدأ بمصادرة المحصول ولا تنتهي عند حد القتل، مستذكرةً حادثة اعتداء عنيفة ارتكبها المستوطنون بحق مواطن فلسطيني أثناء قطفه للعكوب في جبال الخليل.
والعكوب الذي يعد من أكثر الأكلات التراثية طلبًا في الربيع، بات نادرًا وباهظ الثمن، وهو ما حرم العديد من العائلات محدودة الدخل من شرائه. تقول كوع: "هذا النقص الكبير في المعروض وارتفاع الأسعار، دفعني إلى حل جذري وهو تشتيل العكوب وبيعه كمشتلات للمزارعين، ليزرعوه في حدائق منازلهم أو أراضيهم، وليتحول لدى البعض إلى مصدر دخل دائم".
اليوم، وبعد سبع سنوات من العمل الدؤوب، تشير كوع إلى أن مشروعها توسع ليشمل زراعة نحو 500 دونم من أراضي الضفة الغربية بأشتال العكوب، مؤكدة أن الإقبال على شراء الشتلات في ازدياد، من مختلف محافظات الوطن، حيث أصبح العكوب المنزلي بديلاً مستدامًا عن قطف الجبال، وأداة لمقاومة الأسعار.
وتختم كوع حديثها بنبرة فخر: "العكوب ليس فقط نبتة، بل ذاكرة وهوية، حين يزرعه الناس في بيوتهم، فإنهم بذلك يطهون التاريخ، ويخزنونه، ويغرسون جذورهم أعمق في أرضهم".
ورغم أن ثمن العكوب بات يشكل عبئًا على كثير من العائلات، إلا أن الناس لا يتخلون عنه بسهولة، فحب العكوب لا يقاس بالسعر، بل بما يمثله من تراث وهوية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها