بينما تُسابِق السياسة الفلسطينية عاملَ الزمن، وتُغطِّي بتحرُّكها كلَّ القوى الفاعلة ذات التأثير في مجريات الأحداث في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، تنشطُ إسرائيل في إنشاء وقائع جديدة على الأرض هادفةً إلى جعل إمكانية إنجاز الحد الأدنى من برنامج الإجماع الوطني الفلسطيني مسألةً غير قابلة للتنفيذ.
يستند النضال الفلسطيني بشكل ثابت إلى الشرعية الدولية بما تضمنه لنا من تحقيق ما نصبو إليه من أهداف، وكل واحد من تلك الأهداف له في القانون الدولي ما يسنده، ابتداءً من إنجاز حق العودة، حتى إقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، مروراً بضرورة تفكيك المستعمرات الإسرائيلية، وبطلان كافة الإجراءات الإسرائيلية التي تحاول تغيير الواقع الجغرافي، والسياسي، والسكاني للأرض المحتلة.
وعلى الرغم من المعوّقات التي تتراكم أمام تحقيق المطالب الفلسطينية إلّا أنَّ السياسة الفلسطينية ما زالت قادرةً على مراكمة المزيد من المرتكزات القانونية-الدولية الداعمة للحق الفلسطيني، والتي تمَّ تتويجها مؤخَّراً بمقرّرات "اليونسكو" التي تدحض الرواية الإسرائيلية، وتعطي النضال الفلسطيني بُعداً جديداً ذا وجهٍ إنساني وثقافي-حضاري بعيداً عن الأساطير التي تعجُّ بها الرواية الإسرائيلية الزائفة. فلقد توفّرت كل الأبعاد اللازمة لتكريس روايتنا العادلة سياسيًّا وأخلاقيًّا وتاريخيًّا.
في المقابل تمثِّل سياسة الاستعمار ومصادرة الأرض عنواناً أساسياً للهجمة الإسرائيلية المضادة، وهي سياسة لا مجال للشك في أهدافها: تغيير الواقع بما يَحُول بيننا وبين تحقيق ما يضمنه لنا القانون الدولي من حقوق.
يستطيع المتابع لمجريات الصراع أن يرى كيف تستغل إسرائيل علاقاتها الدولية لتثبيت احتلالها، وبعيداً عن الدعم الأمريكي المطلَق والمعروف لكلِّ ما تقوم به إسرائيل من عدوان، نلاحظ كيف تنمو علاقات إسرائيل مع دول مؤثِّرة على مستوى الإقليم والعالم على حد سواء، مستفيدةً من تجارب تلك الدول في تكريس سياسة الأمر الواقع بشكل يجعل منها حليفاً طبيعياً لإسرائيل. فعلى الرغم ممَّا تدّعيه القيادة التركية من حرص على المصالح الفلسطينية والعربية عموماً إلّا أنَّها تجد في علاقتها الحميمة مع إسرائيل نافذةً تُسوِّق من خلالها احتلالها لشمال قبرص بطريقة لا تختلف عن الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية. وقد أتقنت إسرائيل حرفةَ استخدام هذا الاحتلال التركي كورقة ضغط على تركيا وابتزاز لها، وكأداة مقايضة تستخدمها لتحسين علاقاتها مع كلٍّ من قبرص واليونان.
المشهد نفسه يتكرَّر في العلاقات الإسرائيلية مع الهند، تلك العلاقات التي تستند من ضمن ما تستند إليه إلى تجربة الهند في السيطرة على إقليم جامو وكشمير منذ سنة 1947 متنكِّرةً لقرارات مجلس الأمن التي تضمن لسكان هذا الإقليم حقَّ تقرير المصير.
تُخطئ إسرائيل حين تقارن احتلالها لفلسطين "باحتلالات" أخرى، رغم أنَّ كل احتلال هو ظلم مطلَق. ففلسطين هي نقطة تقاطع لكثير من المصالح والمطامع، وهي مفتاح الحل لقضايا قد تبدو ظاهرياً ولحظياً أهم من قضية فلسطين، لكنَّها في الحقيقة فرع ثانوي للصراع الدائر في المنطقة منذ ما يزيد على قرن من الزمن.
في كثير من الحالات (ومنها قبرص وجامو وكشمير) قد تقود سياسة الأمر الواقع إلى نوعٍ من التعايش مع الاحتلال، أمَّا في الحالة الفلسطينية فإنَّ السياسة الإسرائيلية لن تكون نتيجتها تكريس الاحتلال بقدر ما ستفتح الباب أمام أمام شعبنا للبحث في خيارات أخرى، ستكون نتائجها كارثية على إسرائيل بقدر يفوق، بما لا يقاس، المخاطر التي تتذرَّع بها لتفادي إنجاز حل الدولتين، وتدرك إسرائيل أنَّها، وفي مواجهة الاستحقاقات الفلسطينية، لا تملك إلا أن تختار بين أهون الشرَّين، يعرف ذلك كلُّ صُنّاع القرار الإسرائيلي، وهم يحاولون قياس خسائر إسرائيل: هل ستكون أكبر لو رضخت لحلِّ الدولتين أم لو تركت الأمور تجري بسرعة نحو حل الدولة الواحدة؟ ومع ما يبدو من تسارع للوقت على حساب تحقيق ما يطمح إليه شعبنا من أهداف إلّا أنَّ آفاق الصراع على المدى الاستراتيجي ستبقى مفتوحةً على توسيع رقعة المطالب الفلسطينية سياسيًّا وجغرافيًّا.
قد يبدو هذا القول متفائلاً من دون وجود مقومات للتفاؤل، لكن لا بدَّ من القول أنَّ التشاؤم هو تعبيرٌ عن قصر النظر، وعن رغبة آنية وأنانية بتحقيق ما نصبو إليه الآن، وإلا فقد يأتي من بعدنا الطوفان.. من المفيد أن نتذكَّر دوماً أنَّ شعبنا ما زال يخوض معركة الدفاع عن ذاته وعن أرضه منذ بدايات القرن العشرين، وقد أثبتت هذه السنوات الطوال أنَّنا نحن من يسير مع حركة التاريخ، وأنَّ عدونا واحتلاله الاستعماري يفقد تدريجيًّا مقومات البقاء.. وأول تلك المقوّمات هي شرعية روايته الكاذبة..
أمين سر حركة "فتح" – إقليم بولندا د.خليل نزّال
2017-7-10
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها