خاص مجلة "القدس" العدد 337 ايار 2017
بقلم: محمد سرور
القفزات الاستراتيجية الهامة في الدول الكبرى تحسمها قوى الدولة العميقة، أو لنقل السلطة الفعلية التي هي بمثابة حكومة ظل. رجالها لا يظهرون ولا يصرّحون، بل يشيرون ويأمرون.. وبالتالي يطاعون.
أهم إنجازات الرئيس الأميركي دونالد ترامب هي النقلة الاقتصادية النوعية التي توجَّت خلال زيارته السعودية. رغم أن الصفقات التي تم توقيعها مع المملكة الغنيّة مجرد إخراج ذكي ترجم عمليا معنى التهديدات المباشرة التي وجهها الرئيس الأميركي للمملكة العربية السعودية خلال حملته الانتخابية.
كل ما رافق ذلك يعدّ ثانويا، أو هو من متمماتِ المشهد الأصيل... أي الصفقة- الخوّة. يجب أن نلحظ هنا حاجة المملكة إلى تجديد البنية الانتاجية للمنشآت النفطية السعودية، لأنها تقادمت ولم تعد قادرة على تلبية الطموح الانتاجي للمملكة الساعية إلى أخذ دور هام في المنطقة يضعها أمام استحقاقات مالية واقتصادية ضخمة.
من السهل شيطنة إيران أو سواها، ومن الأسهل أيضا جمع ما تم جمعه من حشود في المظاهرة العربية- الاسلامية، لأننا أصلا نعلم بأن غالبية الدول الحاضرة لبّت الدعوة من خلال صفارة واحدة: الادارة الاميركية، التي تشكل الضمانة الوحيدة والاكيدة للدول الحاضرة... بالطبع بين الحضور من لبّى الطلب بصمتٍ معبّر وواضح البلاغة... إذ لا مجال لرفض الدعوة، ولا مجال للتشويش على الكرنفال السياسي الذي توّج ترامب- الأجرب بنظر الجماهير الاميركية- قائدا للمسار السياسي الذي يشيطن إيران... ومن خلال شيطنتها سعى إلى إنتاج حلف جديد وغريب. لكن أهمية الزيارة تكمن في أنها أخرجت ما تراكم تعاوناً وتنسيقاً من تحت الطاولة. ترامب لم يمنح العربية السعودية صكا على بياض، لأن كل ما جرى كان تتويجا لمفاوضات مع إدارة أوباما التي سبقت عهد ترامب، وما الصمت الاسرائيلي على صفقة الاسلحة إلا دليل اطمئنان على كونها تبقى في عهدة الجيش الاميركي وتحت إشرافه، وهو المخول استعمالها في المنطقة، وضد أهداف لن تثير غضب إسرائيل أو خوفها... بالطبع.
من خلال ما شهدناه خلال زيارته المملكة، نلاحظ أن دونالد ترامب يعوّض بعض الخسائر التي دفعتها الولايات المتحدة جراء سياسة المغامرة التي مني بها بوش الابن، والتي عجز عن تعويضها أوباما المتردد الذي أصاب المصالح الاميركية بالجمود... فالرئيس الأميركي الانغلوساكسوني- العنصري الواضح، وهو التاجر ورجل الأعمال الناجح الذي يجيد الكسب أو "القنص". أهمية هذا الرجل في هذه المرحلة تكمن في أنه لا يناور ولا يجيد الادب السياسي بمعناه التقليدي- لأنه لم يكن إبنا لمدرسة الدبلوماسية الاميركية من قبل، لذلك نراه بفعل ما تقتضيه المصلحة الاميركية باللغة المباشرة التي لا تحتاج ترجمة ولا تتضمن تأويلا.
لذلك وضع العداء العربي والاسلامي للصهيونية على الرف، كتتويج لمرحلة تمهيدية سبقت عهده. وأبعد القضية الفلسطينية عن قائمة الاولويات، بدعم ومباركة عربيين... لكن، وباستثناء "السيلفي" التي التقطها مع وزراء وشخصيات إسرائيلية، يبدو أن مأزقه الاكبر، رغم الذي قدمه من وعود ودعم للكيان الصهيوني، سوف تكون حكومة نتنياهو، فيما لو حاول البعض العربي الضغط باتجاه تقدم ما على المسار الفلسطيني.
لماذا هذا الحكم المسبق على حكومة اليمين الاسرائيلية؟
لانها لا تستطيع تقديم ما "قد يطلب" منها، كثمن للتطبيع مع دول الخليج العربي، لأن تلك الحكومة مثقلة بالايديولوجيا، وغالبية وزرائها يعتبرون الضفة الغربية والقدس جزءا أصيلا من أرض إسرائيل التاريخية، والتي هي أيضا أرض مغتصبة من قبل الفلسطينيين، بما فيهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
وما سكوت إسرائيل عن صفقة الأسلحة التي وقعها أوباما مع السعودية إلا لان إسرائيل سوف تجدد مقابلها ترسانتها العسكرية بما يضمن تفوقها الدائم على دول المنطقة مجتمعين- بما فيهم إيران. مع إضافة ملاحظة غاية في الأهمية، أن جزءًا مهمًا من الصمت الاسرائيلي حيال الصفقة هو الثمن الحقيقي لتمريرها. بمعنى أوضح: خلال زيارة ترامب فلسطين المحتلة ولقائه المسؤولين الصهاينة، وخلال نزوله في قصر الضيافة في بيت لحم، لم يشر ترامب إلى مسألة حل الدولتين، وجل ما بشر به هو النوايا الحسنة لدى نتنياهو وأبو مازن.
قد نشهد صيفا حارا هذا العام، نتيجة ما يعتبره الصهاينة صكا على بياض افرزه التلاقي العربي- الاسلامي مع إدارة ترامب في الرياض، أو توكيلا عاما بشأن حسم بعض الملفات التي تنحصر في أماكن ثلاثة: لبنان- غزة وسوريا. مع أن الساحة السورية قد تكون الاكثر استعدادا للعدوان الاسرائيلي. لأن الاعتداءات هناك تقع في جغرافيا متفجرة أولا، ويحتشد فيها كم ضخم من قوى الصراع. التدخل الاسرائيلي يعيد بعض التوازن لموازين القوى، بحيث يطيل أمد الازمة من جهة، ومن جهة ثانية لا يحتاج التدخل الاسرائيلي هناك إلى مبرر. لقد سبق أن طرح الصهاينة على الادارة الاميركية حاجتهم إلى ضم مرتفعات الجولان السورية المحتلة، وعملت حكومات إسرائيل على فرض الأمر الواقع التنموي والاستيطاني فيها، بحيث لم يبق سوى عملية إخراج تليق بالحدث.
وربطا بما سبق، أطل الدور القطري المشبوه من نافذة تعويم حماس، التي تستضيف سفير الدويلة في غزة. لا يكفي اعتذار وزير الخارجية القطري من السيد صائب عريقات، إذ ان الكلام الأصدق خرج من فم البلاد. وهنا لا نستهجن التصريحات التي أدلى بها سمو الامير تميم، لأنها تعبير دقيق عن واقع الحال. فقطر هي التي استضافت قيادة حماس وخلعت عليها الحلل الأبهى تكرمت عليها بما يفوق حجمها بكثير. وقطر استضافت قيادات أخوانية مصرية، ولم تزل تتباكى على القيادة الشرعية- الأخوانية- لمصر.
لقد استبقت حماس زيارة ترامب بنقلة نوعية في خطابها السياسي، فأصبح خطابها برنامج حركة فتح نفسه، الذي خوّنتها حماس بسببه. ولم تعد فلسطين وقفا إسلاميا وساحة صراع مع اليهود، بل أصبح للصراع بعده السياسي- اللاديني.
حدث بمستوى نقلة استراتيجية بدءا من تمزيق نظام داخلي حديدي مرورا بالتخلي عن عقد أيماني قامت عليه حركة المقاومة الاسلامية لم يكن اكثر من بالون كبير سرعان ما أسقطه العهر السياسي الحمساوي القائم على التخوين والشتيمة. فهكذا نقلة كان يجب أن تشكل إجماعا وطنيا يصب في مصلحة القضية الوطنية بما تشكله من توقيت نموذجي للوحدة الوطنية. للأسف، تبيّن أن العازف في وادٍ والمغنّي في وادٍ آخر، وجل ما كانت تتوخاه حماس تعويمها وشرعنة حكمها، وفقا للنصح والارشاد القطريين، لتصبح الناطق باسم الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة والحاكمة باسمه في دويلة غزة...
الفارق كبير الآن بين الميثاق الأصلي لحركة حماس وبين الوثيقة الجديدة التي تحملها قيادة جديدة برئاسة الخطيب البارع اسماعيل هنية. فكيف يمكن التوفيق بين هذه الثلاثية المتنمرة- والعميقة التناقض؟ صقور وحمائم وكتائب تهدد وتتوعد بالويل والثبور؟
منذ مدة أعلنت رئاسة الوزراء العراقية عن مصادرة مبالغ ضخمة من المال القطري- قدّرت بمئات ملايين الدولارات كانت في طريقها إلى إحدى الميليشيات العراقية. قطر هي الدولة الوحيدة التي يطالب الارهابيون بوساطتها في كل مكان يشهد نزاعا، فتلبي وتنجح في الوساطة على طريقتها. هذه الدويلة: هل هي الورقة التي يلعبها الاميركي- الصهيوني وراء الستارة كلما لاحت في الافق أزمة ما؟
ديفيد كمحي انتخبه الرئيس شمعون بيريز لتدريب طاقم قناة الجزيرة على العمل الاعلامي... لمنح الحق للرأي الآخر. من هنا أطلت إسرائيل على شاشتها... كرأي آخر. الدول لا تقاس بالمساحة وعدد السكان: كان هذا أهم درس تلقته قطر. فهل ما تقوم به من حركات بهلوانية سياسية وأمنية، بمعزل عن دور وظيفي تكلف به؟
شبح ترامب- الملقب بالمجنون- لم يزل في المنطقة... من طائرته الرئاسية يلوّح لقادة العرب والمسلمين الآن. يد ترامب الملوّحة تمثّل مصالح دولةٍ عميقة... لا تتورّع عن أي فعل لحمايتها.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها