خاص مجلة "القدس" العدد 337 ايار 2017 

بقلم: احمد النداف


قبل سبعة اشهر بالتمام والكمال وبصورة  مفاجئة أعلنت الحكومة العراقية التي يرأسها السيد حيدر العبادي، عن البدء بمعركة استعادة وتحرير مدينة الموصل، من بين يدي مسلحي داعش، والتي حددت فترتها الزمنية بعشرة ايام على الأكثر طبقا لتصريحات العبادي نفسه، المستندة لتقديرات خبرائه العسكريين وضباط جيشه المدعوم بقوة من قبل مليشيات متعددة الاطراف منضوية تحت راية الحشد الشعبي وبمشاركة من الصحوات، في وقت كانت أنظار الشعب العراقي مشدودة إلى  الداخل العراقي، المطالب  بانهاء المعركة السياسية والاقتصادية ضد الفساد وهدر المال العام وتفشي ظاهرة سرقة المال العام  والاقتصاد العراقي، وعلى عينك يا تاجر وبلا حسيب ولا رقيب، وهي معركة خاضها  الشعب العراقي من خلال انطلاق تظاهرات واحتجاجات انطلقت، في وجه رئيس الحكومة الاسبق نوري المالكي المتهم الأساسي و الرئيسي، والذي وجهت له التهم المباشرة، والتي كادت أن تودي بمستقبله وكتلته البرلمانية (العدالة والقانون)، وهي تهم اجبرته في ذلك الوقت على الرضوخ لهذه التحركات الجماهيرية المغطاة من قبل العديد من القوى السياسية، والشخصيات الوطنية بما فيها تلك التي كانت من اهم ركائز دعم المالكي وحكومته، والتي سهلت له ودعمته للوصول إلى رئاسة الحكومة على الرغم من حلول كتلته البرلمانية في المرتبة الثانية وهو ما كان سيخوله تشكيل الحكومة لولا احتساب حلفائه، وخصوصا التيار الصدري، الذي يتزعمه السيد مقتدى الصدر، الذي عاد وسحب البساط من تحته، ولعب الدور الحاسم في إسقاطه وحكومته التي وصفها بالفاسدة.


ويومها استطاع السيد حيدر العبادي من لعب الدور الحاسم في تهدئة تحركات الشعب العراقي المنتفض، من خلال إبراز نفسه وحكومته كمدافع  عن الشعب العراقي، والمنقذ من حالة التردي الاقتصادي والمعيشي للشعب والافلاس المالي للدولة، على الرغم من تمكن العراق من استئناف عمليات تصدير النفط العراقي بصورة طبيعية وعادية، وهو امر يعني بلغة الارقام ان الحكومة العراقية يصلها ما يقارب ال 120 مليار دولار سنوياً وعلى مدى السنوات الثمانية الماضية التي سبقت حكومة العبادي، فقدت بصورة غامضة وسرية وبطريقة لايعرفها أحد باستثناء المالكي نفسه. وهي مبالغ قدرت بحوالي ال 800 مليار دولار. 

ويومها اتخذ السيد العبادي سلسلة من الإجراءات والخطوات التي دلت على جدية، في مواجهة الفساد والواقع الاقتصادي المتردي، ومنها تقليص ما أطلق عليه العبادي نفسه بجيش المنتفعين، والغاء الكثير من المراكز الوظيفية الوهمية والوظائف غير المنتجة ومنها نواب الرؤساء والحكومة والوزراء والمدراء العامين، وهي خطوات اراحت في وقتها الشعب العراقي المتعطش لاستعادة وضعه الاقتصادي ومستويات دخله الطبيعي.  إلا انه وبلا سابق إنذار اعلن العبادي وفي وقت بدأت فيه ملامح هزيمة مشروعه ( الإصلاحي)، في وجه حيتان المال ورموز الفساد، اعلن بدء معركة استعادة مدينة الموصل مطلقا جدولا زمنيا سريعا لحسمها وعلى ايدي الجيش العراقي والقوى النظامية فقط وهي وعود وضعت الشعب العراقي امام خيار تأجيل معركة اصلاح الفساد ووقف السرقة والنهب المتفشي، لكسب المعركة الامنية والعسكرية ضد الدولة الاسلامية ( داعش ) ومن ورائها الارهاب، وهي معركة اعتبرها الشعب العراقي بأنها ستكون المدخل الحقيقي والقوي من مداخل الاصلاح السياسي والاقتصادي.


إلا ان تفاصيل معركة الموصل واطالة أمدها حتى الان ورغم مرور سبعة أشهر على بدايتها وتناسي مهلة الايام العشرة الموعودة دون حسم كامل ونهائي، على الرغم من نجاحات الجيش والقوى النظامية في تحقيق مكاسب لم تكن لتحصل لولا دعم قوات الحشد الشعبي التي اشركت في المعركة في وقت متأخر نسبياً، وهذه الاطالة دفعت ببعض القوى السياسية للشعور بأنها انتصارات بطعم الهزيمة، لما خلفته من دمار هائل وسقوط الالاف من القتلى والجرحى والملايين من النازحين الذين تعجز الحكومة عن استيعابهم وتأمين مستلزمات حياتهم، وهو امر شكل بدوره عاملا ضاغطاً كبيراً على الاقتصاد العراقي الذي يعاني ما يعانيه من ازمات خانقة وكبيرة.


ويبدو اليوم ان رئيس الحكومة حيدر العبادي والنظام العراقي يمارس سياسة الهجوم إلى الامام من خلال الاعلان على الموافقة لعودة القواعد العسكرية الأميركية الدائمة، وهذه المرة بموافقة وطلب من الحكومة، وبطلب رسمي أعلنه العبادي نفسه، بعدما كان ينظر إلى هذه القواعد وبعد إسقاط نظام الرئيس صدام حسين، بأنها تحولت مع الوقت إلى قوات احتلال مباشر، وهذا الاعلان أعتبره كثير من القوى السياسية الفاعلة في العراق بأنه عمل يرقى إلى مستوى الخيانة العظمى، باعتبارها تشريعاً قانونياً لوجودها على الأراضي العراقية مما يعني في النهاية تشريعاً للاحتلال بصورة او بأخرى.

 
وهذا الاعلان اعتبر في نظر كثير من القوى العراقية بأنه ارتكاب لخطأ جديد لرئيس الحكومة، وهو خطأ قد يصل في نظرها الى مستوى الخيانة العظمى، باعتبار ان هذه العودة وبهذه الطريقة للقواعد الأميركية ستشرع قانونيا لوجودها  في النهاية، وهذا امر يعني في نظرها اعادة للاحتلال الأميركي للعراق بشكل او بآخر.


وعلى هذا الأساس يُخشى من هذه العودة المشرعة قانوناً ورسمياً لهذه القواعد بان لا  تكون في نهاية المطاف داعمة للشعب العراقي ودولته، بل هي تصحيح لخطأ ارتكبته الإدارة الأميركية السابقة، خصوصا وان الرئيس الحالي دونالد ترامب اعتبر ان الانسحاب الأميركي من العراق خطيئة ارتكبها سلفه باراك أوباما، ويجب إصلاحها في نظره، كما اعتبرها عدد من الخبراء الأميركيين بأنها أفقدت الإدارة الأميركية السيطرة السياسية والاقتصادية على بلد لم يسدد  بعد ما عليه من فواتير ( تحريره).

 
ويبدو أن هذه الخلاصة هي بيت القصيد في الرؤية والمشروع الأميركي الحقيقي حيال العراق الذي فقد فيه ما يعادل 800 مليار دولار خلال السنوات الثمانية الماضية تقول الإدارة الأميركية انها ذهبت إلى خزائن النظامين الإيراني والسوري اللذين تعتبرهما الإدارة الأميركية والرئيس ترامب عدوّيها اللدودين، استفاد منها الأول بالإفلات من العقوبات التي كانت مفروضة عليه قبل التوصل إلى الاتفاق النووي الشهير، كما استعان الآخر اي النظام السوري في جزء منه لتمويل حربه الداخلية ضد معارضيه طبقا للتوصيف الأميركي.

وانطلاقاً من هذا الاستخلاص الأميركي يبدو انه السبب الحقيقي وراء السعي الأميركي الحثيث لعودة القواعد العسكرية وهو سعي وافق عليه العبادي بسهولة وترحيب بالغ، بدا فيه الامر وكأنه نزولا عند طلب السلطات الشرعية والرسمية، والذي يبدو في نفس الوقت وكأنه غطاء لفشل الحكومة العراقية في اعادة بناء الدولة ومؤسساتها وكذلك كغطاء لفشل آخر في حسم معركة الموصل البطيئة اي أن الحكومة العراقية فشلت في معركتي الاقتصاد والأمن وهي تبدو وكأنها خشبة الخلاص للعبادي وحكومته من الأزمة الكبرى، من خلال المحاولة لاستبدال معركة بأخرى للتغطية والتعمية، وهذا ما ألمح اليه زعيم التيار الصدري الذي هدد بعودة التحركات الشعبية والنزول إلى الشارع من جديد، والانسحاب من البرلمان، والعودة إلى مقاومة (الاحتلال الأميركي) الجديد، حتى لا يتكرر الخطأ مرتين كما حصل مع المالكي وهو لا يريد تكراره مع العبادي .

وخلاصة القول يُخشى ان تكون عودة القواعد العسكرية بكل قضها وقضيضها تعني وهذا امر يبدو كذلك دخول العراق بمرحلة جديدة من السيطرة الأميركية السياسية والاقتصادية والامنية وحتى العسكرية وكذلك منع  استعادة العراق عن لعب دوره الإقليمي والعربي كدولة ذات سيادة خصوصا مع تزامن تجاهل العراق بالدعوة للمشاركة في القمة الأميركية - العربية الاسلامية والتي اشترك فيها حوالي 55 بلدا والتي عقدت في الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية وهو تجاهل أميركي متعمد يحمل في طياته فصلا جديدا من تهميش العراق ودوره في القضايا الإقليمية والعربية والدولية المفقود حتى الآن، وفيه يبدو ان الإدارة الأميركية تريد ان يكون التهميش كعقاب لفشل الحكومة العراقية في إعادة بناء الدولة ولقربها ومشاركتها في التحالف الرباعي الايراني الروسي والسوري وتنسيقها معهم في محاربة الإرهاب عبر غرفة العمليات الرباعية التي تتنقل بين العواصم الأربع بما فيها بغداد وهو امر كانت الإدارة الأميركية ولا زالت قابلة فيه بعيدا عنها.