شاركت قبل حوالى ثلاثة أسابيع (الخميس 13/6/2019) على قناة الجزيرة في برنامج "سيناريوهات"، والذي خُصصّت حلقته حينذاك لمناقشة "ورشة البحرين". وإضافة إلى أخٍ عُماني، شارك أيضًا في هذه الحلقة أميركي عُرِّف بأنه يعمل مستشارًا لفريق "السلام" في إدارة ترامب. كانت مساهمة هذا الشخص مُستفِزّة أيّما استفزاز. ومع أنني قررّت حينها تجاهله، وأن لا أسمح لاستفزازه أن يجرّني إلى ساحته في سجال، كي أستمر في التركيز على ما أريد أنا عرضه وإيصاله إلى المشاهدين، إلا أنني مع ذلك أصغيت جيدًا لما جاء به من ادعاءات.
باختصار، جاءت هذه الادعاءات لتعكس المنطق الأعوج لفريق "سلام" إدارة ترامب، الذي يتحوصل على التبنّي الكامل لمواقف نتنياهو وحكومته اليمينية، ويقوم بتحميل كامل المسؤولية والعبء من مُرتكب فظاعة الاحتلال إلى الواقعِ تحت وطأته. من هذا المنطلق يتمّ- كما فعل هذا الشخص- كيلُ وابلٍ من الاتهامات للقيادة الفلسطينية، وذلك في محاولة ممنهَجة لإلقاء اللوم عليها، وإلصاق سمة التعنّت بها، ليس فقط لتحميلها عبء الفشل في تحقيق تسويةٍ تنهي الصراع، وإنما وِزْرَ استمرار الوضع الفلسطيني البائس تحت الاحتلال أيضًا.
وكما نفث هذا الشخص خلال المقابلة، فإنّ القيادة الفلسطينية منفصلة عن الشعب الفلسطيني، تعمل ضد مصلحته ورغبته التي يُعرّفها ويَعرِفها الفريق الأميركي. والدليل على ذلك، وفقًا لادعائه، أن هذه القيادة، بخلاف رغبةِ الشعب، ترفض المشاركة في الجهد المبذول من هذا الفريق في "ورشة البحرين" التي تُشكّل بوابة الأمل بتحقيق ما يصبو إليه هذا الشعب من أولوية الازدهار الاقتصادي. وللدلالة على هذا الانفصام في العلاقة بين القيادة والشعب استعان هذا الشخص بنتائج سابقة لاستطلاعات الرأي التي يجريها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية. ومع أنني أكدّت حينها على وحدة موقف المجموع الفلسطيني ضد المشاركة في "الورشة"، وتجاه ما بات يُعرف بـِ"صفقة القرن"، إلا أنّه لم يكن هناك فائدة ترجى من الدخول حينئذٍ في محاججةٍ حول تلك النقطة التي كنت بحاجةٍ إلى دليل ماديّ لتدعيمها.
جاء الدليل الماديّ قبل أيام. فنفس المركز الذي أشار إليه ذلك المستشار، واستخدم نتائج استطلاعاته السابقة ليُعزّز بها وجهة نظره، نشر نتائج استطلاع رأيٍ جديدًا (2/7/2019) يُظهر بالدليل القاطع أن أغلبيةً عريضةً من الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال تؤيد الموقف المعارض للمشاركة في "ورشة البحرين" (79%). ليس هذا فحسب، بل إنّ أغلبيةً أوسع أعربت عن عدم ثقتها بالإدارة الأميركية الحالية (90%)، واختارت الحرية والاستقلال على الازدهار الاقتصادي (83%)، وأكدت تشاؤمها من "صفقة القرن" (86%)، وطالبت القيادة برفض هذه الصفقة عندما يتم عرضها (75%). أيوجد أبلغُ من هذه النتائج دليلًا على وحدة الموقف الفلسطيني الذي يجد في مسعى الإدارة الأميركية انتهاكًا أساسيًا صارخًا للحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني؟! وماذا يمكن أن يكون عليه موقف فريق "السلام" الأميركي الآن بعد ظهور نتائج هذا الاستطلاع، وفقد إمكانية التشكيك بصحة نتائجه بعد استخدام الاستطلاعات المشابهة السابقة كمصدرٍ موثوق؟! هل سيذهب هذا الفريق الآن باتجاه الادعاء أن الشعب الفلسطيني، بما أنه غير قادر حاليًا-كما ذكر رئيس هذا الفريق قبل فترة- على حُكم نفسه، قاصرٌ أيضًا عن الوعي بمصلحته، وأن من واجب هذا الفريق، كونه يبتغي الخير للفلسطينيين، أن يُعّرف ويفرض رؤيته لـ "المصلحة الفلسطينية" على هذا الشعب؟!
لقد أسقطت نتائج هذا الاستطلاع التي تثبت عدم وجود شرخ في الموقف بين الشعب والقيادة تجاه المشروع الأميركي ذريعةً واهيةً كان فريق إدارة ترامب يعوّل على استخدامها مدخلًا ومبرّرًا لفرض الرواية الإسرائيلية اليمينية التي يتبناها في تحديد المستقبل الفلسطيني. هذه الرواية التي تقوم على فرض لاءاتٍ إسرائيلية على متطلبات أساسية فلسطينية (لا للدولة، لا للعودة، لا للقدس، لا لإيقاف الاستيطان، لا للخروج من غور الأردن، لا لوصل الضفة بالقطاع، لا لإنهاء الحصار على القطاع،...)، يُظنّ بأنها يمكن أن تتحقق بالالتفاف الشكلي عليها بعرض صفقةٍ زهيدةٍ على الفلسطينيين لتحسين ظروف حياتهم الاقتصادية مع استمرار الاحتلال. المهم أن هذا التوجه القائم على استبدال المتطلب السياسي بالرشوة الاقتصادية كان قد جُرّب في السابق العديد من المرّات، وفشل في كلّ مرّة، المرّة تلّو المرّة. ويدّعي الفريق الأميركي اعتباطًا أنه يُقدّم مقاربة جديدة ومغايرة لجميع المحاولات التي قامت بها الإدارات الأميركية السابقة. ولكن، وفي واقع الأمر، لا يوجد في التوجه الأميركي الحالي ما هو جديد سوى تصاعد درجة الإمعان التي تصل إلى التماهي مع الموقف الإسرائيلي.
هل تعملون ما هو الخطأ المُكرّر عبر العقود الماضية والمرتكب من قبل أصحاب الحلول الاقتصادية القافزة على الحقوق الفلسطينية السياسية؟ إنها، ببساطة، استخفافهم واستهانتهم بالكرامة الوطنية الفلسطينية، الجمعية والفردية معًا، أي للشعب بمجموعه، ولكل فردٍ من أفراده. يظن هؤلاء، أولًا، أن بإمكانهم، ومن خلال توظيف أفضلية قوتهم في ميزان القوة مع الفلسطينيين، القفز عن هذه الكرامة الوطنية وشراءها بصفقةٍ مالية، لا يتم سوى التركيز على حسبة تكاليفها، والمساومة على رفع ثمنها إن اقتضت الضرورة ذلك. ولأن الانصياع هو التصرف المتوقع من قبل الطرف المتلقي الأضعف في ميزان القوة، فإن أصحاب الحل الاقتصادي يظنّون بأنهم يمنّون على هذا الطرف بحلٍّ سحريٍّ سخيٍّ لا يمكن رفضه. وعندما يأتي الرفض الذي لا يتوقعونه، لا يتمكن هؤلاء من استيعاب الموقف، فهم لا يفقهون أن الكرامة الوطنية لا ثمن يمكن أن يكفي لها، سوى تحقيق الحقوق السياسية الشرعية للشعب الفلسطيني.
كما يظن هؤلاء، ثانيًا، أن بإمكانهم استغلال الشقوق والشقاقات التي يئن منها الوضع الفلسطيني الداخلي حاليًا، واستخدامها معبرًا سهلًا وآمنًا للقفز عن الحقوق السياسية الفلسطينية الأساسية. صحيح أننا نعاني من انقسام يصعب التمكن من استمرار تفسيره في ظل ما نتعرض له من حملة الاستهداف الخارجي الحالية. وصحيح أيضًا أنّنا نطاحن بعضنا بعضًا على قضايا جوهرية فيما يتعلق بأساسيات الحكم الرشيد وصون الحريات العامة والفردية، ونتراشق الاتهامات حول مواضيع ذات شأن فيما يتعلق بمجالات الفساد وسوء الإدارة. ولكن الاجنبي يخطئ دائمًا إذا ظنّ أن بالإمكان اللعب على هذه الأوتار للمسّ بالكرامة الوطنية الفلسطينية. وهذا ليس كلام إنشاء مُفرغ من المضمون، بل يُعبّر عن حقيقة لها اثباتاتها في تجربة الكثير من الشعوب التي واجهت استقواء مستعمريها عليها. وفي التجربة الفلسطينية خلال العقود الماضية دلائل كافية على صحة ذلك. فالناس، بغضّ النظر عن اختلاف انتماءاتهم وضراوة خلافاتهم الداخلية، يتآزرون ويتوحدون بالعادة أمام الخطر الخارجي عندما تُستثار حميّتهم الوطنية، وبالتحديد عندما يتعلق الأمر بمصيرهم ومستقبل أجيالهم القادمة. أيعقلُ أن يقبل شعبٌ، مهما تكالبت عليه الظروف الصعبة، باستدامة الانتقاص من حريته وكرامته، وأن يستكين لذلك الانتقاص إلى الأبد؟!
أمر أخير في غاية الأساسية والأهمية: يجدر الانتباه والاهتمام بأن فترة التوحد الداخلي نتيجة الاستشعار بالخطر الخارجي يمكن أن لا تُعمّر طويلًا. فالحميّة الوطنية صِمغٌ يدوم أثره الايجابي طالما كانت الجبهة الداخلية صلبةً ومتينة، ولكن لا يمكن التعويل على ديمومة هذا الأثر طويلًا إذا لم تصبح مسألة معالجة وهَن هذه الجبهة أولويةً وطنيةً قصوى. فالحصنُ المتينُ هو المُحصّن ذاتيًا، والصمغ بأثرٍ خارجيّ، مهما كانت قوته، يبقى محدود الفاعلية أمام استمرار تمدّد الشقوق واستفحال الشقاقات الذاتية.
والأمر في النهاية رهينُ إرادتنا ومنوطٌ بعملنا.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها