أولاً: مقدمة

  يُدركُ كلُّ متابعٍ للصراعِ الدائرِ في فلسطينَ أنّ موضوعَ اللاجئين الفلسطينيين هو جوهرُ هذا الصراعِ وعنوانهُ الرئيس، فهو إضافةً إلى كونِه شاهداً حيّاً على الظلمِ التاريخيِّ الذي لَحِقَ بالشعبِ الفلسطينيّ ولا زال هذا الشعبُ يعاني منْ آثارهِ حتى الآن، وإضافةً إلى كونِهِ عاملاً منْ عواملِ عدمِ الاستقرارِ في دولِ الجوارِ ولإثارةِ مخاوفِها من خَطرِ التوطينِ، فإنّهُ وقبْلَ كلِّ ذلكَ وبعدَهُ يشكّلُ أساسَ المشروعِ الوطنيِّ الفلسطينيِّ وركيزتَهُ الأولى التي تَستندُ إليها المرتكزاتُ الأخرى ليُشكِّلَ معَها ثُلاثيةَ الإجماعِ الوطنيّ المتمثِّلةَ بالعودةِ وتقريرِ المصيرِ وإقامةِ الدولةِ المستقلةِ على التراب الوطني  الفلسطينيّ وعاصمتُها القدسُ الشرقيةُ، فبدونِ إنجازِ حقِّ العودةِ يُصبحُ منَ المستحيلِ تحقيقُ الركيزتينِ الأُخْرَيَيْنِ من هذا المشروعِ الذي يحظى بإجماعٍ وطنيٍّ شامل.

وقد شكّلَ هدفُ إنجازِ حقِّ العودةِ نقطةَ الانطلاقِ للحركةِ الوطنيةِ الفلسطينيةِ المعاصرةِ وأساسَ برامجِها الكفاحيةِ، تماماً مثلما شكّلَ اللاجئونَ الفلسطيينونَ النواةَ الأولى لحركةِ التحررِ الوطنيّ الفلسطينيّ في كافةِ ساحاتِ العملِ الوطنيّ، وفي كلّ مكانٍ وُجِدَ فيه هؤلاء اللاجئونَ سواءً أكان في الدولِ المجاورةِ لفلسطينَ أو في بلدانِ الهجرةِ الأكثر بُعداً عن الوطن.

إنَّ الأهميةَ السياسيةَ لحلّ مشكلةِ اللاجئين الفلسطينين مسألةٌ لا نقاشَ فيها، فقد كانتْ هذه القضية وما زالتْ أساسَ الصراعِ الدائرِ في فلسطينَ بين الشعبِ الفلسطينيّ من جهة، والاحتلالِ الإسرائيليّ الاستيطانيّ العنصريّ من جهةٍ أخرى. لكنّ شعبَنا الفلسطينيَّ في نضالِه من أجلِ تحقيقِ هدفِ العودةِ لا يستندُ فقط إلى أرضيةٍ سياسيةٍ وأخلاقيةٍ صلبة، وإلى حقّهِ المطلَقِ والطبيعيّ في وطنِهِ، لكنّهُ يَستمدُّ شرعيةَ نضالِه أيضاً منَ القانونِ الدوليّ ومنْ قراراتِ الشرعيةُ الدوليةِ المتعلّقةِ بالقضيةِ الفلسطينيةِ والصادرةِ في مختلفِ مراحلِ التراجيديا الفلسطينيةِ منذُ بداياتِ القَرنِ العشرينَ وحتى يومِنا هذا.

إنّ حقَّ العودةِ هو حقٌّ أساسيٌّ طبيعيٌّ تتمتعُ بهِ الشعوبُ والأفرادُ وِفقاً لكافّةِ الشرائعِ والمواثيقِ الدولية، فليسَ من قبيلِ الصُّدفةِ أنْ تؤكّدَ المادةُ رقم 13 من الإعلانِ العالميِّ لحقوقِ الإنسانِ على مبدأ حريةِ كلِّ إنسانٍ بالتنقُّلِ والإقامةِ حيثما يشاءُ في نطاقِ كلِّ دولة، وعلى حريةِ الفردِ بمغادرةِ أيّ بلدٍ والعودةِ إليهِ، ولا يحِقُّ لأحدٍ حرمانَ أيِّ شخصٍ منْ حقّهِ في مغادرِة بلدهِ أو العودةِ إليهِ وقتما يشاء. كما أكَّدت الاتفاقيةُ الدوليةُ للقضاءِ على جميعِ أشكالِ التمييز العنصريّ في مادتِها الخامسةِ على أنّهُ "لا يجوزُ إنكارُ حقِّ أي فردٍ في مغادرةِ أي بلدٍ بما في ذلكِ بلدُه، وفي العودةِ إليه".

ثانياً: قليلٌ من التاريخ

1. لقدْ شكَّلت النكبةُ الكبرى عام 1948 نقطةَ تحوّلٍ تاريخيّ في حياةِ شعبنا، وذلك لفداحةِ ما تبِعَها ونتجَ عنها مِنْ تهجيرٍ لجزءٍ أساسيّ من هذا الشعبِ إلى خارجِ وطنِه، ونقلٍ قسريّ لجزءٍ آخرَ إلى أماكنَ جديدةٍ داخلَ الوطنِ ليصبحَ هذا الجزءُ لاجئاً في وطنِهِ لا يحقُّ لهُ العودةُ إلى بيتِه أو ممتلكاتِه التي تمَّ طردُهُ منها، وهي في أحيانَ كثيرةٍ لا تبعُدُ عنهُ أكثرَ منْ مرمى حجر.

2. تم تعريف اللاجئِ الفلسطينيِّ حسبَ وكالة غوثِ وتشغيلِ اللاجئينَ الفلسطينيين "الأونروا" بأنَّه "الشخصُ الذي كانتْ فلسطينُ مكانَ إقامتِهِ العاديةِ مدةً لا تقلُّ عنْ سنتينِ قبلَ نشوبِ النزاعِ العربيِّ  الاسرائيليِّ مباشرةً في عامِ 1948، وفَقَدَ ديارَهُ ومواردَ رزقِهِ نتيجةً لذلكَ النزاع". من هنا يأتي الربطُ العضويُّ حسبَ القانونِ الدوليِّ بيْنَ اللاجئِ الفلسطينيِّ وأرضِ وطنِهِ الذي أُبعِدَ عنهُ عنوةً أو اضطرَّ إلى مغادرتِه، فهو ينتمي إلى هذهِ الأرضِ التي تمثّلُ مكانَ إقامتهِ العاديةِ والتي كانَ يقيمُ ويكسبُ رزقَهُ فيها قبْلَ أنْ يضطرَّ إلى مغادرتِها.

3. ليسَ هناكَ مجالٌ للشكِّ أنَّ أساسَ الظُّلمِ التاريخيِّ الذي لحِقَ بالشعبِ الفلسطينيّ يكمنُ في مفصلَينِ أساسيين: وعدِ بلفور الصادرِ سنة 1917 ووضْع فلسطينَ تحتَ سُلطةِ الانتدابِ البريطانيِّ، والتي كرّستْ نفسَها لتنفيذِ الوعدِ المشؤوم. ولسنا هنا بصددِ التطرُّقِ إلى هذينِ المفصلَينِ من الناحيِة التاريخيةِ، فهما وبِلا أدني شكٍّ شرٌّ مطلقٌ دفعَ شعبُنا ثمناً لهُ بدون ذنْبٍ وبدون مراعاةٍ لأبسطِ أُسسِ العدالةِ والشرعيةِ الدوليةِ ومبادئِ حقوقِ الإنسان كأفرادٍ وشعوب. ولكنَّ الدراسةَ القانونيةَ المتأنّيةَ تستطيعُ أنْ ترى أنَّهُ حتى في وعدِ بلفور فقدْ كانَت هناك إشارةٌ خجولةٌ تدعو إلى مراعاةِ الحقوقِ "المدنيِة" للفئاتِ من السكانِ "غيرِ اليهود". ومنْ هذه الحقوقِ حقُّ الإقامةِ الدائمةِ والملكيةِ وممارسةِ الشعائرِ الدينية.

4. فيما يخصُّ صكَّ الانتدابِ فإنَّ المادةَ رقم 5 منه تؤكِّدُ أنَّ مِنْ أهمِّ مسؤولياتِ الدولةِ المنتدَبَةِ (بريطانيا العظمى) هو ضمانُ عدمِ التنازلِ عنْ أيّ جُزءٍ منْ أرضِ فلسطينَ إلى حكومةِ دولةٍ أجنبية، ناهيكَ عنْ أنَّ المادةَ 22 من ميثاقِ عُصبةِ الأممِ قد اشترطَتْ عدمَ اجراءِ ايِّ تعديلٍ سكانيّ في تركيبةِ الإقليمِ الواقعِ تحتَ الانتداب. هذا مع العِلمِ أنَّ فلسطينَ قدْ صُنّفْت كدولةٍ وذلكَ أُسوةً ببقيةِ الدولِ العربيةِ بمجرّدِ انفصالِها عن الامبراطوريةِ العثمانيةِ بعدَ الحربِ العالميةِ الأولى وفقاً لمعاهدةِ لوزان سنة 1923. كذلكَ فإن قرارَ التقسيمِ رقم 181، الصادرَ عن الجمعيةَ العامةِ للأممِ المتحدةِ سنةَ 1947 أكّدَ على عدمِ قيامِ أيّ تمييزٍ بين السكاِن في الدولتين اليهوديةِ والعربيةِ وأنهُ "لن يُسمَحَ بأيّ تملكٍ (مصادرة) لأرضٍ يملكُها عربيٌّ في الدولةِ اليهوديةِ أو لأرضٍ يملكُها يهوديٌّ في الدولةِ العربيةِ إلاّ للمنفعةِ العامة."

5. إنّ الهدفَ من الإشارةِ إلى وعدِ بلفور وقرارِ الإنتدابِ ليسَ التقليلُ من حَجمِ الظلمِ الذي تسبّبا بهِ بحقِّ شعبنا، وإنما ايجادُ الأسسِ والمرتكزاتِ القانونيةِ للحقوقِ الفلسطينيةِ حيثُما كانَ ذلكَ ممكناً، وهي في هذهِ الحالةِ مرتكزاتٌ وأسسٌ تنمُّ عن الخللِ الداخليّ الذي تتّصفُ بهِ الدعائمُ الهشةُ وغيرُ القانونيةِ التي شكّلت أساساً للمشروعِ الصهيونيّ في فلسطين.

ثالثاً: الشرعية الدولية

1. إنّ المستندَ القانونيَّ الأساسيَّ الذي يشكُّلُ محورَ الشرعيةِ الدوليةِ التي نتمسكُ بها وبضرورةِ تطبيقِها هو القرار رقم 194 الصادرُ عن الجمعيةِ العامةِ للأممِ المتحدةِ في الحادي عشرَ من ديسمبر/كانون الثاني سنة 1948 والذي أقرَّ الحقَّ بالعودةِ والتعويضِ للشعبِ الفلسطيني، وهو قرارٌ تم أتخاذُهُ بعدَ يومٍ واحدٍ فقط من إصدارِ الإعلانِ العالميِّ لحقوقِ الإنسانِ، وهو تزامنٌ يُعطي القرارَ أهميةً خاصةً بحيثُ يجعلُ من تطبيقِهِ أحدَ أهمِّ عناوينِ العدالةِ في التاريخِ المعاصر.

2. لقد أُشبِعَ هذا القرارُ دراسةً منْ قِبَلِ كثيرٍ من المختصينَ والمهتمينَ بالشأنِ الفلسطينيِّ وبتحقيقِ العدالةِ وتطبيقِ مبادئِ الشرعيةِ والقانونِ الدوليين. ويُجمِعُ الباحثونَ على مجموعةٍ من المزايا التي يتمتّعُ بها هذا القرارُ، ولكنَّ أهمَّها على الإطلاقِ هو أنهُ يُقِرُّ حَقَّ العودةِ بشكلٍ مباشرٍ للفلسطينيينَ كشعبٍ وليسَ كأفرادٍ، وقد كانَ إصدارُهُ نتيجةً لتوصياتِ الكونت برنادوت، المندوبِ الخاصّ للجمعيةِ العامةِ للأممِ المتحدةِ، وهو الذي أشارَ في تقريرِه في أكثرِ من مكانٍ إلى الفلسطينيينَ كشعبٍ مضطّهَدٍ لهُ الحقّ الكاملُ في العودةِ إلى  بلادهِ وفي التعويضِ عن كلِّ ما لحقَ به من أضرار.

3. كما يُجمعُ الباحثونَ على أنّ هذا القرارَ له صفةُ الألزامِ رغمَ كونِهِ صادراً عن الجمعيةِ العامةِ للأممِ المتحدةِ لا عن مجلسِ الأمنِ، فهوَ قرارٌ له صفةٌ استثنائيةٌ حيثُ أنهُ صدرَ بأغلبيةٍ واضحةٍ مما يعطيه قوةَ القرارِ الملزمِ والواجبِ التنفيذِ، خاصةً أن هذا القرارَ قد جرى التأكيدُ عليهِ وإعادةُ إقرارِهِ في مناسباتٍ عديدةٍ مما يجعلُهُ واحداً من أهمِّ القراراتِ التي تحرصُ الجمعيةُ العامةُ على التأكيدِ عليها باستمرار، وهو ما يكرّسُ الصفةَ الألزاميةَ له.

4. لقد طورتْ الجمعيةُ العامة مِنْ موقفِها وذلكَ عندما ربطَتْ بينَ تنفيذِ القرارِ رقم 194 وبين حقِّ الشعبِ الفلسطينيّ في تقريرِ المصيرِ، وهو ما تضّمنَهُ القرارُ رقم 3236 الصادرُ عن الجمعيةِ العامةِ سنة 1974، حيثُ جعلَ هذا القرارُ تنفيذَ حقِّ العودةِ مقدمةً لا بُدَّ منها لممارسةِ الشعبِ الفلسطينيِّ لحقِّهِ الطبيعيَّ في تقريرِ المصيرِ، وهو حقٌّ لهُ الأولويةُ على كافةِ الحقوقِ والالتزاماتِ الأخرى ولا يجوزُ تجاوزُهُ أو إعاقتُهُ أو تأجيلُه.

5. أمَّا الأساسُ القانونيُّ الملزِمُ لأسرائيلَ فيما يتعلقُ بالقرارِ رقم 194 فيكمنُ في أن القبولَ بهِ وبالقرارِ رقم 181 الخاصِّ بتقسيمِ فلسطينَ قد كانَ شرطاً وضَعَتْهُ الجمعيةُ العامةُ للأممِ المتحدةِ وأَجبَرتْ إسرائيلَ على القبولِ بهِ خطياً قبْلَ أنْ يتمَّ قبولُ عضويتِها في الأممِ المتحدةِ، وهي سابقةٌ لمْ تحصلْ مع أيةِ دولةٍ أخرى. وإنَّ هذا الأصرارَ من جانبِ الأممِ المتحدةِ على إلزامِ إسرائيلَ بالقبولِ بهذا القرارِ كشرطٍ لعضويتِها في المنظمةِ الدوليةِ هو سندٌ آخرً لمقولةِ أنَّ القرارَ رقم 194 هو قرارٌ إلزاميٌّ واجبُ التنفيذِ، ولو لَمْ  يَكُنْ كذلكَ لما تمَّ وضعُهُ شرطاً لقبولِ عضويةِ دَّولةٍ في الأممِ المتحدة. ثمَّ إنّ القولَ بأن القرارَ رقم 194 غيرُ ملزمٍ لكونِهِ صادراً عن الجمعيةِ العامةِ ينسفُ الأساسَ القانونيَّ الذي قامتْ عليه إسرائيلَ، لأنَّ قرارَ التقسيمِ نفسَهُ هو أيضاً قرارٌ صدرَ عن الجمعيةِ العامةِ وليسَ عن مجلسِ الأمنِ الدولي.

6. إنَّ عدمَ تطبيقِ القرارِ لا يُلغيهِ ولا يُفقدُهُ شرعيتَهُ، فكما وردَ سابقاً فإنّ الأممَ التحدةَ تُعيدُ التأكيدَ على هذا القرارِ كلما جرى وضعُ القضيةِ الفلسطينينِة على جدولِ أعمالِها، مما يُبقي حقَّ العودةِ قضيةً قانونيةً وسياسيةً وأخلاقيةً ماثلةً أمامَ المجتمعِ الدوليِّ، مما يُحافظُ على القرارِ مِنْ أنْ يتمَّ القفزُ عنهُ أو تناسيهِ في خضمِّ ما يحدثُ من تطوراتٍ ومنْ قضايا جديدةٍ يتحتمُ التعاطي معهَا. فعندما استجدّت قضيةُ "النازحينَ" الذينَ أُجبِروا على مغادرةِ الضفةِ الغربيةِ والقدسِ وقطاعَ غزة بعد عدوانِ سنة 1967 أصدرَ مجلسُ الأمنِ الدوليّ بخصوصهم قرارَهُ رقم 237 بتاريخِ 14 حزيران 1967، أيْ قبلَ أن تضعَ الحربُ أوزارَها، وهو قرارٌ أكّدَ على ضرورةِ قيامِ إسرائيلَ بتأمينِ عودتهِم إلى المناطقِ التي اضطروا لمغادرِتها.

7. نستطيعُ القولَ أنه وبعدَ عدوانِ سنة 1967 أصبحَ التعاملُ معَ قضيةِ اللاجئينَ الفلسطينيينَ يستندُ إلى أساسَيْنِ قانونيَّين: القرارِ رقم 194 المتعلقِ باللاجئين الفلسطينينين الذي تم تهجيرُهم من أرضِهم نتيجةً لحربِ سنةِ 1948، والقرارِ رقم 237 الصادرِ عن مجلسِ الأمنِ والمتعلقِ بالنازحينَ بعدَ حربِ سنةِ 1967 وهو قرارٌ تمَّ التأكيدُ عليهِ من قِبَلِ مجلسِ الأمنِ الدوليِّ في العديدِ منَ المناسباتِ اللاحقة. إن التمييزَ بينَ اللاجئينَ والنازحينَ هو قضيةٌ مرتبطةٌ بعاملِ الزمنِ وبتاريخِ صدورِ القرارينِ آنفَي الذِّكرِ، وهو تمييزٌ لا يمسُّ جوهرَ حقِّ العودةِ، فالهدفُ من القرارينِ هو تمكينُ الشعبِ الفلسطينيِّ مِنَ العودةِ ألى أرضِه.

رابعاً: التعويض والتوطين

1. هناك الكثيرُ من الأطروحاتِ وبالوناتِ الإختبارِ التي تتحدثُ عن التعويضِ وتجعلُه موازياً لحقِّ العودةِ أو بديلاً عنهُ. إن هذهِ الأطروحاتِ تتغاضىٰ عمداً عن جوهرِ القرارِ رقم 194 الذي يتجلّى مغزاهُ الحقيقيُّ في فقرتِه رقم 11 وذلكَ حينَ يتمُّ التأكيدُ أنه يجبُ السماحُ وفي أقربِ وقتٍ ممكنٍ بعودةِ مَنْ يرغبُ من اللاجئينَ بالعودةِ والعيشِ بسلامٍ مع جيرانِه. والعودةُ المنصوصُ عليها هنا هي عودةٌ تتعلقُ باللاجئينَ كمجموعةٍ متكاملةٍ وليستْ عودةَ أفرادٍ أو مجموعاتٍ صغيرةٍ تحتَ مسميّاتِ لمِّ الشّملِ أو ما شابهَها من التسمياتِ والتي ترمي إلى الالتفافِ على حقِّ العودةِ وإفراغِه منْ مضمونِه القانونيِّ والسياسيِّ ليصبحَ مسألةً إنسانيةً خاصةً بعددٍ محدودٍ من الممكنِ التفاهمُ بشأنِها.

2. إنَّ المبدأَ الذي يرتكزُ إليهِ القرارُ رقم 194 هو مبدأُ الإقْرارِ بحقِّ العودةِ، وهو حقٌّ مطلقٌ، وأَما موضوعُ التعويضِ فهوَ ذو شقين: التعويضُ لمَنْ لا يرغبُ بالعودةِ، والتعويضُ لمَنْ يرغبُ بالعودةِ وذلكَ عن الخسائرِ التي لحِقتْ بهِ وبممتلكاتِه. إنَّ طرحَ إمكانيةِ التعويضِ لا يكونُ ممكناً إلا إذا توفّرتْ إمكانيةُ الأختيارِ، أي أنَّ الأساسَ هو أنْ يكونَ كلُّ مَنْ يرغبُ بالعودةِ قادراً على تحقيقِ ذلك، ومَنْ لا يرغبُ يمكنهُ الإستفادةُ مِنَ التعويض. بعبارةٍ أخرى: يجبُ الإقرارُ أولاً بحقِّ العودةِ بصفتِهِ حقّاً جماعياً للاجئينَ الفلسطينيينَ كمجموعةٍ كاملةٍ تُشكِّلُ جزءاً أصيلاً من الشعبِ الفلسطيني، وعندما يتمُّ توفيرُ هذا الشرطِ تصيرُ الاستفادةُ منهُ حقّاً فردياً لكلِّ شخصٍ، ويُصبحُ بإمكانهِ الإختيارُ بينَ العودةِ والتعويض.

3. إنَّ إنجازَ حقِّ العودةِ هو تطبيقٌ للقانونِ الدوليِّ وليسَ حلّاً نهائياً لكلِّ قضايا الصراعِ، وهوَ تجسيدٌ للبُعدِ الأخلاقيِّ للنضالِ الوطنيِّ الفلسطينيِّ وتعبيرٌ عن رفضِ الظلمِ والقهرِ الذي لحقَ بهِ نتيجةً لطردهِ من وطنهِ، وفي هذا المجالِ لا بدَّ منَ التأكيدِ أنَّ تواجدَ اللاجئينَ الفلسطينيينَ في البلدانِ المضيفةِ هو تواجدٌ قسريٌّ مؤقّتٌ أُجبِرَ شعبُنا عليه إجباراً، والتوطينُ خيارٌ مرفوضٌ منَ الفلسطينيينَ أولاً ومنَ الدولِ والشعوبَ التي تستضيفُهم.فمبدأَ التوطينِ إضافةً ألى كونِهِ يتعارضُ معَ حقِّ العودةِ فهو عَملٌ عُدوانيٌ ضدَّ الدولِ والشعوبِ المضيقةِ، فهو بشكلٍ أو بآخرَ "استيطانٌ" قسريٌّ لا يمكنُ لشعبِنا أن يَقبلَ بهِ وهو الضّحيةُ للإحتلالِ الاستيطانيِّ الإسرائيليِّ البغيض. كما أنَّ توطينَ اللاجئيين الفلسطينينين في الدولِ المضيفةِ سيشكّلُ عواملَ إضافيةً لعدمِ الأستقرارِ في تلكَ الدولِ، فهي دول محدودة الموارد اقتصاديا، ومجتمعاتٌ لها تركيبتُها وتوازناتُها الداخليةُ الهشّةُ، ولن يُضيفَ إليها توطينُ ملايينِ الفلسطينيينَ إلا مزيداً منَ المشاكلِ وعواملِ عدمِ الأستقرارِ، وهو ما لا يُمكِنُ أنْ يقبلَ بهِ اللاجئونَ الفلسطينيونَ قبلَ غيرِهم.

خامساً: إسرائيل وحق العودة

أمَّا الموضوعُ الأخيرُ فيما يخصُّ حقَّ العودةِ فهو الموقفُ الإسرائيليُّ منه، والذي يمكنُ تلخيصُه بما قاله شمعون بيريز ذاتَ مرةً أنه ومِنَ الناحيةِ الإقتصاديةً فإنَّ بإمكانِ إسرائيلَ أن تستوعبَ اللاجئينَ الفلسطينيينَ، لكنَّ المشكلةَ تكمنُ في أنَّ عودةَ عدةِ ملايينَ منَ  الفلسطينينَ سيؤدّي إلى نتيجةٍ حتميةٍ بأنْ تفقِدَ إسرائيلُ صفتَها كدولةٍ يهودية. إن هذا القولَ إضافةً إلى أنهُ تعبيرٌ عنْ نظرةٍ عنصريةٍ واضحةٍ، إنما يعبّرُ أيضاً عن حقيقةِ أنَّ العائقَ الرئيسيَّ أمامَ تطبيقِ القانونِ الدوليُّ وتنفيذِ قراراتِ الشرعيةِ الدوليةِ يَكمنُ في أنَّ إسرائيلَ غيرُ مؤهلةٍ بتركيبتِها الحاليةِ لتكونَ عضواً فاعلاً في المجتمعِ الدوليِّ يَحترمُ الأُسُسَ والقواعدَ التي تُلزِمُ  جميعَ الدولِ الأعضاءِ في الأسرةِ الدوليةِ، وإذا كانَ هناكَ تعارضٌ بينَ تطبيقِ الشرعيةِ الدوليةِ وبينَ الأُسُسِ التي تقومُ عليها إسرائيلُ فلا مجالَ سوى أنْ تتغيرَ تلك الأسُسُ، لأنَّ تغييرَ قواعدِ القانونِ الدوليِّ أمرٌ مستحيل.

أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال