مع كل إدارة أمريكية جديدة يبرز التساؤل عن موقف هذه الإدارة من عملية السلام في الشرق الأوسط، وهل من رؤية جديدة لها عن سابقاتها من الإدارات الأمريكية؟ الملاحظ أولاً سيطرة الصراع العربي الإسرائيلي، وبعبارة أدق إسرائيل على كل الحملات الانتخابية الرئاسية، وثانياً توافق كل المرشحين للرئاسة والحزبين الجمهوري والديمقراطي على التمييز بين تبني موقف إسرائيل، والتأكيد على أمنها وبقائها وبين أي عملية سلام وتسوية للصراع العربي الإسرائيلي، وبل والملاحظ ثالثاً ربط الأخيرة بأمن إسرائيل. ومن غير المتوقع أن تتغير السياسة الأمريكية في عهد الرئيس ترامب اتجاه القضية الفلسطينية، وحل عقدة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعيداً عن هذا الالتزام الثابت في السياسة الأمريكية. وبمتابعة الخطاب السياسي للرئيس ترامب أثناء حملته الانتخابية، وبعد توليه الرئاسة وبعد لقائه الأخير بالرئيس محمود عباس والتزامه بتحقيق السلام الذي عجز من سبقه عن الوصول له لا نلاحظ تغيراً ملموساً، بل ثباتاً واضحاً، بل وقد يكون أكثر صرامة من سابقيه. ولعل الجديد في موقفه هو الإسراع في إعطاء أولوية لرغبة أمريكية في تحقيق تسوية تاريخية، رغم أن العادة جرت أن أي إدارة تولى اهتمامها وتستأنف سياساتها بعد السنة لأولى التي تكتمل فيها أركان البيت الأبيض. والسؤال ثانية هل من رؤية جديدة لإدارة ترامب؟ وهل من قدرة ورغبة أكبر لتحقيق التسوية التاريخية التي تحدث عنها الرئيس ترامب ؟ قد يكون من الصعب القول إن هذه الرؤية قد اكتملت، وأصبحت واضحة الأهداف والآليات، لكن مع ذلك يمكن تلمس بعض ملامح هذه الرؤية من خلال التصريحات السياسية المختلفة للرئيس ومستشاريه، ومن خلال التعرف على أركان إدارته، ومن خلال لقاءاته الرئاسية مع نتنياهو والقادة العرب. بداية وفى أول لقاء له مع نتنياهو، بدت ملامح هذه الرؤية مع أول مؤتمر صحفي له حيث عبر الرئيس الأمريكي عن تأييده لخيار التفاوض الثنائي المباشر بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وعدم فرضه أي حلول على الطرفين، ولا يتمسك بحل الدولتين، وإن كان عدم القبول بها يؤدي لحل الدولة الواحدة، وكأنه بذلك يبعث برسالة تحذيرية لإسرائيل للقبول بحل الدولتين. والموقف الغير واضح من قضية الاستيطان/ فتأييد حل الدولتين يعني موقفاً معارضاً للاستيطان، وهو ما تحاول هذه الإدارة تجنبه، كما كان الوضع في إدارة الرئيس أوباما التي تبنت حل الدولتين، ومعارضة الاستيطان، لتنتهي بعدم معارضة القرار الأممي 2334 الصادر من مجلس الأمن، والذي يدين كل الاستيطان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، وهذا مستبعد في إدارة الرئيس ترامب التي قد أسقطت دور الأمم المتحدة من هذه الرؤية، وهو ما سيدركه الفلسطينيون، وتبدو ملامح هذه الرؤية من أول خطاب له أمام الكونجرس والذي قد أكد فيه أن التحالف مع إسرائيل لا يمكن خرقه، وهو في هذا التأييد الشخصي أبعد من سابقيه، وبدت ملامح هذه الرؤية تنكشف مع أول زيارة لمبعوثه الشخصي جيسون غرينبلات للمنطقة، وتصريحه الواضح أن إدارة الرئيس الأمريكي ترامب تسعى إلى عملية سلام تحفظ أمن إسرائيل واستقرار المنطقة، وهذا التصريح على قلة عدد كلماته، لكن كشف عن عنصرين من عناصر الرؤية ألأمريكية الجديدة: أمن إسرائيل، أي تسوية سياسية ستأخذ في الاعتبار الحفاظ على امن إسرائيل، ليس فقط بتأييد الولايات المتحدة لهذا الأمن، ولكن بالدور الفلسطيني والدور العربي، وهو ما يعني إن أي كينونة فلسطينية لا ينبغي أن تشكل تهديداً لأمن إسرائيل، بل قد تذهب هذه الرؤية إلى خضوع هذه الكينونة أياً كانت صورتها دولة يجب أن تستجيب لمتطلبات أمن إسرائيل، وقد بدت ملامح هذه الرؤية خلال لقائه للرئيس وتأكيده وقف التحريض والتصدي لكل أعمال العنف، والعنصر الثاني في هذه الرؤية تحقيق الاستقرار فى المنطقة، وهنا الربط بين السلام والخطوات ألإقليمية من خلال التفكير في شكل من أشكال التحالف الإقليمي تكون إسرائيل طرفا فيه، ومحاربة واستئصال كل أشكال الإرهاب في المنطقة والقضاء على حركة داعش وغيرها لما تشكله من عنصر عدم أمن واستقرار في المنطقة. وهنا تتسع حدود هذه الرؤية لتضم دول المنطقة، ودمج إسرائيل في المنظومة العربية، وتتسع هذه الرؤية للموقف من إيران وتهديداتها للمنطقة، وبناء على هذا الموقف قد يتحدد الموقف العربي من فكرة السلام الإقليمي، وهذا ما قد يفسر لنا بعض ما جاء في بيان القمة العربية في عمان على استعداد لسلام وعلاقات شاملة مع إسرائيل بشرط قيام الدولة الفلسطينية، وانسحاب إسرائيل من كل الدول العربية. ولا يعني هذا إن الرؤية الجديدة قد تكون مغايرة لما سبقها من رؤية للإدارات السابقة. فالخطوط العريضة واحدة. وإن كانت حظوظ الإدارة الجديدة اكبر في فرض رؤيتها، وممارسة ضغط على الأطراف المعنية، وتقوم هذه الرؤية على فرضية أساسية وهى حاجة لكل الأطراف للدور الأمريكي لمعالجة كثير من ملفات المنطقة، فالبيئة الفلسطينية مواتية للقبول ببعض عناصر هذه الرؤية خصوصاً وان إدارة الرئيس ترامب كانت تشكك في القيادة الفلسطينية وقدرتها على اتخاذ القرارات المؤلمة على تسوية، ويبدو إن محاولات إقناع كثيرة قد بذلت، بدليل الاتصال الهاتفي مع الرئيس عباس أولاً، ولقائه ثانية ومدحه له بأنه رجل سلام ومن ناحية أخرى لا تستطيع إسرائيل أن تشكك في نوايا وأهداف الرئيس ترامب، كما في إدارة الرئيس أوباما، وأما الوضع العربي فهو أكثر استجابة ورغبة للتعامل مع إدارة الرئيس ترامب، وليس في موقف يسمح لها بمعارضة السياسات الأمريكية  وللدور الأمريكي في حل ملفات المنطقة، وخصوصاً ملف الإرهاب، ولا تستطيع الدول الإقليمية كإيران وتركيا الذهاب بعيدا في معاداة السياسة الأمريكية، جوهر هذه الرؤية ما يسمى بعقيدة الصفقة التي تتبناها الإدارة الأمريكية، والتي يمكن أن تطبق مع كل الفواعل من الدول وغير الدول لتمرير رؤيتها للتسوية محرجة حماس بعد وثيقتها الجديدة وإرسالها رسالة بالقبول بالدولة الفلسطينية، ونبذ الإرهاب والعنف، وترتبط هذه الإستراتيجية بما يعرف بمبدأ أو عقيدة ترامب فكل رئيس أمريكي اقترن إسمه بمبدأ أو عقيدة معينة، وبالنسبة للرئيس ترامب ترتبط هذه العقيدة بما يعرف في العلاقات الدولية الصفقات التجارية، أو عقد سلسلة من الصفقات المتتالية بين الفواعل الدولية، وتقوم هذه العقيدة على أن الولايات المتحدة الدولة التي يمكن أن تكون أكثر خداميك، وأكثر الدول خطورة عليك في الوقت نفسه، والدولة التي تؤدي أية أخطاء ترتكبها إلى مصائب إستراتيجية ، يصعب احتواء تأثيراتها، ومن عناصر هذا المبدأ ما يتعلق بشخصية الرئيس ترامب، وصعوبة اليقين بالتنبؤ بما قد يقوم به من تصرفات، وما إذا كان سيدير هذه الصفقة كرجل أعمال يدير شركة إلى رجل أعمال يدير دولة عميقة وكبيرة كالولايات المتحدة. ولذلك الأسلم التعامل معه بإستراتيجية السيناريوهات المحتملة. والعنصر الثالث المرتبط بعقيدته البعد الشخصي أما يعرف بالنسق ألعقيدي الذي يحكم سلوكه وتصرفاته وتنبؤاته، وهى مجموعة الأفكار والقيم والمعتقدات التي يؤمن بها. ففي التاريخ كان هناك منطق الحق الإلهي أو منطق الأنا،أنا الدولة، ويبدو إن شخصية ترامب أقرب إلى منطق أنا الدولة، فهي شخصية لا تقبل الخسارة، وتعود على تحقيق المكاسب المالية وفى إطار هذه العقيدة يريد أن يحقق إنجازاً سياسياً بان يكون الأول الذي حقق تسوية تاريخية لأصعب واعقد صراع في التاريخ وهذا ما ظهر في قوله من الصعب أن أقبل بالرفض كإجابة. وستعتمد هذه الرؤية على أسلوب عقد المؤتمر، ولذلك قد نتصور لقاءات ثلاثية أو رباعية تجمع الرئيس عباس ونتنياهو وقد تتحول لمؤتمر للسلام يجمع دول المنطقة بالتوازي مع آلية التفاوض المباشر، وما قد يميزه هنا إن تكون هذه المفاوضات لفترة زمنية محددة مرتبطة بكل من الرئيس عباس ونتنياهو اللذان قد يكونا الأكثر قدرة على الوصول لتسوية بتنازلات مؤلمة، ما زالت هذه الرؤية في بدايات التبلور والاكتمال، وقد تكتمل مع اكتمال لقاء قادة المنطقة، التي على أثرها ستبدأ الخطوة لأولى في مفاوضات مباشرة قد تبدأ بعد شهور من ألان ولا يستطيع أي طرف رفضها.