بسم الله الرحمن الرحيم
" قال؛ رَبِّ، السِجنُ أحَبُّ إليَّ مِمّا يدعُونَني إليه" صدق الله العظيم .
(عندما لم يكن في الأعالي سماءٌ، ولم يكن في الأسفلِ أرضٌ .. لم يكن في الوجودِ سوى ضُوءٍ يتوهَّجُ بين الملحِ وبين الماءِ، ليواجِهَ البَطْشَ والعنكبوت، عندها وُلِدَت الكرامة وجاءَت الحريّة، وكانتِ الأسطورةُ التي مات فيها الغولُ وغابَ السُّكوت).
باسمِ الأُمّةِ من مائِها إلى مِلْحِها، وباسمِ شَعبنا في مخيماتِ شواهدِ الإثبات، وباسم الأقصى والجرسيّةِ، والشهداءِ الأحياءِ والجرحى الأولياءِ، وباسمِ الشرفاءِ .. ومِن ساحةِ مانديلا الذي كسرَ بقبضته الهواءَ الفاسدَ وقهرَ العنصريةَ والأبارتهايد، ومن تلالِ رام الله، على بُعْدِ قُبْلةٍ من القدسِ العاصمة، وعلى مَرمى وَردةٍ من يافا، ومن ساحات غزةَ هاشم، أُمِّ الأساطيرِ التي تموت، نتوجّهُ إلى أسرى الكرامةِ؛ أرواحِ الأرضِ، أنبياءِ الصبر، الذين أرجعوا لنا مرايا الجبّارين وفجرَ العماليق، وزاوجوا بين الوّترِ والعرين، وأعادوا الزغاريدَ إلى الأرجوان. نقول لهم: إذا خُلِق السجنُ لكم فقد خُلِقتُم للحريّة، وسلامٌ على جوعِكم المقاتلِ، وعلى عطشِكم الجليلِ، الذي تدافعونَ به عن فلسطين، البعيدةِ عن خطوطِ السُّوءِ والهزيمةِ واليأسِ والانقسامِ المشبوهِ، وتواجهونَ به الجِهويةَ والحزبيّةَ والحرائقَ وانغلاقَ السُبُلِ والضُّمورَ والتعويمَ .. وتقفونَ في وجهِ العَبثِ الاحتلاليِ الذي يسعى إلى تفريغِ الحركةِ الأسيرةِ من مضامينِها ومحتواها الوطنيِ والإنساني. سيأتي البحرُ ليملأ ضلوعَكم، لتظلّوا زَخمَ الرَّعدِ، والبرقَ المُختَزِنَ في غيومِ البلادِ .. حتى تبقى المعتقلاتُ قِلاعاً، إلى أن ينشقَّ البابُ ويدخلُ النهار، ولترجعَ الحركةُ الأسيرةُ إلى سَبيكَتِها الذهبيّة، تحفظُ مُنجزاتِ الشهداءِ والمناضلين، وحتى لا نستمرئ السّكينَ على رقابنا، أو يشحذونَها على عظامِنا.
نقولُ لكم: لستُم وحدَكم، إنَّ شعبَكم يتنفّسُ في ظهورِكم، ومعكُم المآذنُ والأسوارُ والأجراسُ والرُّضّعُ والهتافُ والمعابدُ والأغاني. تتربّعون الآن على سِدَّةِ الخلود، في كَعْبةِ الأقوياء وكَرْنَكِ الأشدّاء، ترسمون صورةً بالأمعاء اللّاهبةِ، والماءُ يبحث عن الظمآنين. ستقهرون الفاشيةَ والسّاديّةَ، ففي صوتكُم دماءُ الشهداءِ وصراخُ الجرحى ونداءُ الأُمّهاتِ وحِراكُ الميادين وجرأةُ الموسيقى وطيورُ النار .
أيها الأسيرُ، يا ابنَ الناياتِ والشَّجنِ، ويا زهرتَنا الزجاجيةَ وشمعتَنا البابليةَ، يا ابنَ البدايةِ التي لا تنتهي، يا سيّدَ الأعراس، ونشيدَ المتراس، يا عسلَ الأعرافِ الرَّانخةِ على رِقابِ الخيولِ الوحشيّةِ، يا انفجارَ الربيعِ وعاصفةَ السنبلةِ، يا بُخارَ جراحِنا ويا خُبزَنا الجَمريّ، سيقرأ عميد الأسرى كريم يونس حروفَه المأنوسةَ، وسيرفعُ النَّرجِسةَ إلى المُلصقِ، وسيسعى إلى الضوءِ المُشِّعّ والكتابِ القويم وإلى النسَغِ المخبأ في الجذور، وسيرمي الماسةَ بين الرّحى، حتى يرتجَّ المعدنُ وتتوالى فيه البراكين، حتى يبلغَ الكَشْفَ .. ومع جُوعِه سيبدأ يومٌ جديد، وهو على صوابٍ إذ يقدِّمُ كلَّ شيء من أجل الحرية ، ويمهِّدُ لمنظرٍ ورديٍّ للزمنِ الآتي .
أيّها الأسيرُ، يا أيقونتَنا المخبّأة مثل شمسِ الغَسَق؛ إنّ إرادَتكم هي إرادةُ النّصر الأكيد، وإنْ رفَضَ السجّانُ مطالبَكم الإنسانية العادلة، فهذا يؤكد زيفِ احتكاره لصورةِ الضحيّة، لأنه الجلاد بامتياز، وليرى العالمُ جرائمَ هذا المحتلّ، حتى لا يظلّ البعض خاضعاً لابتزازه، أو مصدّقا لدعاويه الملفّقة التي تحارب كل ما هو برئ، وتحرق كل ما هو طفل، وتمنع كلَّ صلاة لله. فهل آن الأوان للعالم لأن يُعيد هذا القاتلَ إلى أقفاص المحاكمة، لما يقترفه من إرهاب منَظَّم، يطال الحياةَ ويلوّثُ المعايير البشرية والمواثيق الدولية .
أيُّها الأسرى !
سيشربُ قَرنُ الغزالِ من رِيقِ صخرِكم، ويطلعُ الزَّعترُ من ملحِ نارِكم، وسيأتي الفجرُ من رَنَّةِ الصحونِ الفارغةِ على رفوفِ الصدى .
إنّ شرارةَ إضرابِكم الفذِّ المتواصلِ ستقودُنا إلى السَّرْجِ من جديدٍ، وستؤَصِّلُ لانتفاضةِ الحُريّةِ المُشرعةِ، ولن نصعدَ، ثانيةً إلى الجُلجلةِ، وسنفرشُ دربَ الآمِكم بالشقائقِ والحَبَقِ، وسترفعُ الشرفاتُ مناديلَها في زفّاتِ القمرِ الطليق .
أنتم لَحمُ الشمسِ ونبضُ البركانِ ورجّةُ الغناءِ الذي سيلدُ البقاءَ. نقول لجلّادِكم، الذي يَسجِنُ حتى الجثثَ، في مُدنِهِ الجهنميّةِ وباستيلّاتِه البربريّة: كِلانا، أيّها المُحتلُّ يعرف الموتَ، لكنَّ واحداً منّا يعرف الحياة. إنّه الأسيرُ ! الذي لن يسمحَ لِزَمَنِكُم لأنْ يقدَّ أثوابَه السوداءَ من أعمارنا .. فهو على يقينٍ بأنّ كلَّ هذه الآلامَ ستصبحُ حريةً، وإنْ اقترفتم ألفَ مذبحةٍ في العيد .
ونقولُ لباقي الأسرى والمعتقلين غير المضربين، إنّ هذا العُرْسَ الصوفيّ والأَلَقَ الخارقَ لا يكتمل إلا بالتحامِكم، وإننا نخجلُ، من طعامنا، فكيف تستمرؤون الموائدَ، وأنتم في حَمْأةِ المذبحة، ومع المُضربين عن الذّلِ، على بُرْشٍ واحدٍ في العتمات. نرجو أن تُعلنوا انضمامَكم فوراً إلى هذه الملحَمة الفارِقة، ولا تتركوا خاصرةَ الأسرى مبذولةً للطعنات.
ونتمنّى على العالَم ومؤسساته الحقوقية والإنسانية أن يُعيدَ للسيدة العمياء، العدالةِ، بصرَها وبصيرتَها، حتى لا يظلّ القاتلُ دون مساءلةٍ وحساب.
وهنا نشكرُ كلَّ الذين أضربوا وصاموا وتضامنوا، وما زالوا يقفون بجسارة ورحْمةٍ، في كلِّ الدنيا، مع الأسرى، ولتتعاظمَ تجلّياتُ المساندةِ في كل الجهات.
ونعلن هنا، أنّ الأُمّةَ والشعبَ والبيوتَ والقبابَ، والزيتونَ المُستوي على عَرْشِه الأبديِّ، وهي تتماهى مع جُمْوعِ الشّعب، تقبضُ على جَمرةِ الثوابت الوطنية، وتؤكد على حقوقنا غير القابلة للتصرّف، وكلُّنا ثقةٌ بأنَّ شعبَ ياسر عرفات الخالد سيبقى حارساً أميناً، حتى تنقشعَ المَظْلَمةُ الهوجاءُ، وينأى آخرُ احتلالٍ عن أرضنا، وتنفتحَ أبوابُ القلب، ونعبرَ من رِبْقةِ الحسرات، إلى فضاءِ فلسطين الوهّاجِ بالألوان .. وستكون أيادي عميد الكبرياء كريم يونس مع تشابك ذراعيّ القائد مروان البرغوثي وأحمد سعدات .. أقواساً للغارِ وشبابيكَ للحياة، التي سنعبرها، غير منقوصين، بكاملِ الحرية والكرامة .
أيها الأسرى ! لم يكن بينكم وبين الرّمز مجازٌ، لهذا لن يكون بينكم وبينه حِجاب، فهو الذي يرى الجنَّةَ في الصّحوِ والمَنام، ويجعل من دخانِ الماءِ غيمةً تُثير الخشوع.
قمرُهُ ساخنٌ، وهو في كلِّ الجهات. وذكرياتُه لن تحرقَها المسافاتُ والزنازين ، وهو الذي اجترح عشقَ المستحيل، وأثارَ القشعريرةَ في الحديد .
قد يتعب المحيطُ ، لكنَّ الأسرى لا يتعبون! إنهم يرسمون السماءَ ثم يهبطون بها إلى الأرض، يُرَوّضون الهواءَ المتوحّش ويحبّون فلسطين، وحكمتُهم البالغةُ تقول: إنَّ ما يريده أيُّ دمٍ هو ألّا يُسْفَك، ومن الدمِ يأتي دمٌ جديد.
ستظل عيونُ الأسرى تلتمعُ وسط الظلمةِ، سيضربون بالرّعدِ، وستتألّقُ وجوهُهم مثلَ نارٍ تتأجّج، كلماتُهم حيّة، وقد كتبوا شغفَهم على قُمصان السَّحاب، ونقشوا انتصاراتِهم على حيطانِ الهواء، فلتأخذُهم الوردةُ نُسوراً إلى الشمس، ليظلَّ مجراهُم سماوياً، ويبشّرونَنا بالخلاص، وعندها سنطلقُ الحَمامَ وندحرجُ الرّمانَ المصهور، وننتحبُ من عطشِ العشقِ السرمدي.
عاشت فلسطين وعاش اسمُها الجديد: أسرى الحرية، وعشتَ أيُّها الكبشُ المُكحَّلُ، أيُّها المضربُ المَلك، فالنصرُ لك .
وليسمعْ العالَم، وليسمعْ .. سنجوع ونعرى، قِطعاً نتقطع .. لكنّا لن نركع، لن نركع .. لن نركع.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها