حال سوريا اليوم يشبه أمسها، لعب على حافة الهاوية. شيء من اثنين: توازن متاعب ومحاولة اشتقاق خطوط لا يدخلها اللون الاحمر.
إسرائيل ضربت ما سمته "سلاحاً كاسراً للتوازن في مطار دمشق". أميركا ضربت في الشعيرات ما ادعت أنه "الموقع الذي أطلق السلاح الكيمائي على المدنيين في إدلب.
في الأولى: نجحت مساعي ما "تحت الطاولة" في الاتفاق على انسحاب مقاتلي حزب الله من منطقة الحدود مع الجولان المحتل مقابل توقف إسرائيل عن مهاجمة وقف الهجمات الاسرائيلية على الاراضي السورية. بالطبع تم ذلك بعد سيناريو تبادل فيه الروسي والاسرائيلي الرعب المدروس والمفضي إلى تفاهم على خطوط اللعبة ومداها.
 وفي الثانية: تتم إعادة رسم خارطة للنفوذ الاميركي- الروسي، وكل مع ما يحتشد من دول وقوى في محوره الفاعل، مع فارق هام، يتلخص بعدم وقف الضغوط على روسيا لفك تحالفها مع نظام الرئيس السوري بشار الاسد. وفي الجهة المقابلة تجري عملية ضغط مستمرة على الجانب الايراني المتدخل بقوة في الحدث السوري، من خلال وصف الاتفاق النووي الدولي مع إيران بأنه "الصفقة الخاسرة"، وبأن إدارة ترامب أعطت لنفسها مدة 90 يومًا لتحديد سياستها تجاه ذلك.
نعلم أن الادارة الأميركة الجديدة، من خلال الضربات التي وجهتها صواريخ التوماهوك ال 59 إلى مطار الشعيرات، هدفها أولا: محاكاة الرأي العام الاميركي بأن زمن اللغة الساخرة وعدم الوثوق بالرئيس الآتي من عالم التجارة والصناعة قد انتهت، وبالتالي بدأت جدية سياسته تأخذ مسارها العملي. فرغم الدعوات المتكررة للتحقيق الدولي النزيه بمجزرة الكيميائي في خان شيخون، ورغم الخبر الذي وثقه رئيس تحرير موقع "فيتيران توداي" والملخص بأنه "محاولة تركية متجددة هدفها جر الولايات المتحدة إلى الصراع السوري... وأن ترامب على علم بالاستفزازات، لكنه أراد تسليط الضوء على قوة صواريخ توماهوك"، إلا أن فاعلية المواقف المعترضة وأيا كان اتجاهها ومصدرها قد انتهت. فمن جهة لا أحد يحاسب الدول القوية على مغامراتها، ومن جهة ثانية من السهل تدخل دولة بحجم الولايات المتحدة في دولة تعتبر مكسر عصا في عالم الدول المترنحة. ناهيك عن أن الولايات المتحدة دمرت دولا واستباحتها تحت عنوان: الاسلحة الكيميائية التي لم يعثر لها على أثر- العراق نموذجا.
واذا كنا اعتقدنا بأن الحل السياسي لم يزل بعيدا، وبأن محاولات استنزاف الدول والقوى المتدخلة في الصراع السوري يجب أن تأخذ مداها، يعني ذلك أن الواقع الجديد الذي يتم الاستعداد لتنفيذ السيناريو الخاص به بدأت طلائعه بالظهور. حيث روسيا وحلفاؤها في الساحل والغرب عمومًا، والولايات المتحدة وحلفاؤها في الجنوب الشرقي عند التقاطع الاردني- الاسرائيلي- السوري... مؤقتا. ما يعني أن لكل محور مساحته الحيوية التي يستطيع من خلالها إدارة لعبته الطويلة الامد.
السلطان رجب طيب أردوغان أحيا العثمانية كدولة خلافة بعد نجاح الاستفتاء على التحول من النظام البرلماني إلى الرئاسي، فتجاوز الأتاتوركية بكل هالتها وقوة حضورها في المشهد التركي الحديث، مما يطرح علامة استفهام كبرى حول حقيقة الانقلاب والجهة التي أعدت له ونفذته. بذلك يكون أردوغان مسح الوجه الذي اعتمدته تركيا منذ ما يقرب من القرن، وعاد إلى الوراء بفلسفة أخوانية واجه لأجلها أوروبا التي كانت محط حلم دولته التاريخي في الانضمام إلى اتحادها. تركيا أصبحت نموذجا لا مجال من خلاله لعلاقات طيبة بينها وبين أوروبا، بل على العكس، فقد فتحت بابا واسعا من الاهانات المتبادلة معها، ومن الاتهامات التي تجاوزت اللياقات الدبلوماسية والسياسية، مما يعني القطع مع دولتين هامتين على الاقل: ألمانيا وبلجيكا.
التركي المتدخل بقوة في الحدث، يبدو غريبا بين الاصطفافات المعنية في الشأن السوري، بحيث بدا كمتطفل وعبثي، مهمته إشعال النار والحرص على عدم خفوتها أو انطفائها. ما سبق يعني أنه لتركيا أجندتها الخاصة التي لا يشاركها فيها إلا إمارة قطر. وأنها أيضا بدأت كواحدة من القوى المتطرفة والمتصارعة في الساحة السورية. لا يبدو أن ذلك يشعر الاميركي بالراحة، ولا يمنح مساحة ثقة مع روسيا، ناهيك عن عداء مضمر- معلن مع كل من سوريا والعراق... والأكراد طبعا. لكن مساحة العبث تتسع وتتسع للاعبين: لأية فئة أو جماعةٍ انتموا، ففريضة تمزيق هذا البلد العربي يجب أن تكتمل... ذلك ما يصرُّ عليه المصمِّم الاميركي- الاسرائيلي.
الدولة الايرانية مستقرة، ولا يهزها عامل خارجي مهما بلغت قوته، لأن السلطة تقوم على المؤسسات العاملة، وعلى تنوع في الدخل الاقتصادي، ناهيك عن التطور الملحوظ في البينية الصناعية. لذلك فإن الاسراف المبالغ فيه لهزيمة إيران سوف يكلف أثمانا باهظة دون جدوى، لذلك لا يمكن استبدال العدو الصهيوني بعدوّ آخر لا ضرورة للعداء معه، فيما لا يصح أن تصبح إسرائيل محور تحالف يجمعها إلى العرب ضد إيران. فهي- إسرائيل، لم تتخلّ عن كونها دولة احتلال وعدوان وفصل عنصري. وهي ترفض أية تسوية تعطي للفلسطينيين والعرب أرضهم المحتلة بقوة السلاح والاستيطان وفرض الوقائع على الارض. إنها الخطيئة الكبرى بحق المنطقة وفلسطين فيما لو تجاوز بعض النظام العربي معادلة أولوية الصراع من أجل فلسطين وحقوق أهلها.
اللقاء الذي جرى مؤخرا، بين وزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا، وضع أمن وسلامة إسرائيل على الطاولة... كل المسائل العالقة تجد حلا حين تكون إسرائيل بمأمنٍ عن أي تهديد، أيًا كان حجمه وخطره. والعجيب- الغريب الذي لم نسمع في العالم من يجيب عليه هو: تلك اللغة الرنانة- العفيفة، المشبعة بالرحمة وبالحزن على أطفال خان شيخون... وزراء حكمة العدو تألموا كثيرا... توجعوا، ف "هذا العمل بربري ووحشي، ولا يمكن أن يمرَّ مرور الكرام، وإن لم يكن هناك رد على المجزرة الرهيبة سوف ترد إسرائيل... ولو منفردة، حتى يتعلم القاتل درسا لن ينساه أبدًا".
هل ما يجري فوق الأرض السورية جزء من تأبيد إسرائيل وتفكيك أي خطر قد يطالها؟ هل تنحصر مصالح الدول الكبرى والحالمة بالحضور من أجل إسرائيل وحولها؟ أم أنه يضاف للمسألة النفط والغاز والمصالح الاقتصادية؟
لا يبدو أن نهاية الصراع لن تبدأ بأقل من تقسيم سوريا. تمركز القوى الوافدة إلى المحاور يأخذ هذا المسار، والتسويات التي تحصل بين النظام السوري وفصائل المعارضة تتجه إلى تكريس ذلك، وللمفارقة: إتفاقات التبادل يحصل أكثرها برعاية وإشرف روسيين. حتى أن الأكراد يبدو أن حصتهم قد حفظت وبرعاية أميركية مباشرة. لكن السؤال الذي يحيّر المراقب، ما الفائدة التي يجنيها العرب الداعمين للحرب في سوريا؟ ألم يتعلموا دروس الماضي، من خلال خلاصة مؤكدة تعتبر أن الإعصار لن يترك ساحة عربية دون أن يمسح معالمها؟ هل انقرض الغيارى الذين يخافون على أمتهم من الغد الأكثر حلكة وسوادًا؟
إن فلسطين تُطوّق وتُنسى وتحسم أمر النضال وحيدة في وجه عدوّ على استعداد لتدمير المنطقة كلها لكي يطمئن إلى وجوده ويصبح صاحب قرار في تقرير مصيرها. ألا يتعظ العرب من ذلك؟ إن اطول حرب خاضها العرب ضد المحتل الصهيوني لم تتجاوز مدتها الأسابيع، لماذا يطوون السنين في حروب دمار وعبث وتمزيق لكل مكونات البناء والعيش في بلادنا؟ من سواهم الخاسر مما يجري؟