ستة سنوات مضت وانقضت على "ثورة" الإطاحة بالرئيس الليبي معمر القذافي، والتي ادت الى إسقاط نظامه بعد حكم استمر لأكثر من  42 عاماً، شهدت خلالها ليبيا في ظل حكمه نوعاً من الاستقرار السياسي والتطور الاقتصادي، والتحديث المدني والنهضة العمرانية، نتيجة لامتلاك ليبيا ثروات وإمكانيات تؤهلها لإقامة اكبر المشاريع وأهمها على الإطلاق ليس في ليبيا وحسب، بل تخطتها الى المحيط العربي وحتى الدولي ولعل ابرزها مشروع النهر العظيم الذي ساعد في النهضة الليبية الزراعية .

 

 وهذا الاستقرار والنهوض وإرساء دور كبير لليبيا التي وصل الى ما وراء البحار والقارات، اثار خلال هذه الفترة ردود فعل متباينة على الصعيدين الداخلي والخارجي، باعتبارها فترة طابعها القذافي  الزعيم والقائد والثائر الخ... من التسميات التي اطلقها العقيد على نفسه، خلال فترة حكمه والتي شهدت تأرجحاً في المفاهيم ما بين العروبة بما يحتمها من اهداف ومنطلقات إيديولوجية وحدوية كانت خلال فترة من الفترات من أبرز أحلام الشعوب العربية، وهي التي تزامنت مع ما عرف بمرحلة النهوض القومي التي اطلقها وغذاها فكريا ونظريا ونماها الرئيس جمال عبد الناصر، والذي كان القذافي نفسه أكثر المتأثرين بها والطامحين العاملين لترجمتها  ومحاولة تطبيقها وتعميمها على العالم العربي، لدرجة ان الزعيم عبد الناصر اطلق على العقيد القذافي لقب امين القومية العربية وهي صفة سهلت للقذافي فيما بعد طبع الافكار القومية بطابعه الخاص، في محاولة لادخال افكاره الخاصة التي كانت تتأرجح وتقترب أحيانا من الأسلمة وطورا من الاشتراكية وفي اخر المطاف من افرقتها ( نسبة لافريقيا).

 

وهذا الامر تجلى واتضح منذ بداية تقلده، مقاليد السلطة في ليبيا على أنقاض حكم الأسرة السنوسية  وبعد تربعه على عرشها من دون منازع، وهو ما تجلى في إظهاره ولعا في طرح المبادرات القومية والاقليمية وحتى العالمية محاولا الاستفادة من الافكار الناصرية القائمة على تحقيق حلم الوحدة العربية ووحدة الصراع القومي

 

 وبعد الحقبة الناصرية جنح القذافي إلى مفاهيم تخطت العالم العربي نحو القارة الافريقية في محاولة لترسيخ نفسه زعيما مستعداً لإعادة تشكيلها السياسي والدستوري، وهو امر دفع بعض الدول الغربية وخصوصا الولايات المتحدة الاميركية لمناصبته العداء على اعتبار ان الافكار التي يطرحها تؤثر على مصالحها الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية، وهو ما جعلها تسعى لإسقاط حكمه والقضاء عليه بأي شكل من الأشكال حتى لو اضطرت لاستخدام العمليات الاستخباراتية السرية والعمليات العسكرية المباشرة (تعرض القذافي لأكثر من 30 محاولة اغتيال خططت لها الاستخبارات الأميركية ال سي أي ايه وثلاث عمليات هجوم جوي بالطائرات الحربية من سلاحها الجوي) بهدف اسقاط حكمه وايقاف تأثيراته المتشعبة في اكثر من اتجاه وهو ما كان الدافع الاول والاكثر جدية من بين الاسباب التي بررت فيها الادارة الاميركية من خلف حلف الناتو التدخل في ليبيا والمساهمة في اسقاط حكمه بالقوة العسكرية .

 

وهذا التدخل والمشاركة الفعالة والقاتلة ضد القذافي شخصيا ونظامه بشكل عام ثبت انه لم يكن مدفوعاً من الحرص على مصالح الشعب الليبي، او الرغبة في تحويل ليبيا إلى واحة ديمقراطية فريد من نوعها في منطقة الشمال الإفريقي والعالم العربي، إنما اتضح أن هذا كان ابعد ما يكون عن الواقعية والصدقية، وهذا ما كشف عنه المسار الذي سارت عليه الأحداث الليبية خلال السنوات الماضية، فالمتابع لتطور الامور في ليبيا عن قرب وبعين مجردة وثاقبة يرى بسهولة انه تحول إلى غابة حقيقية مليئة بالسلاح تسودها الفوضى التي من الصعب جدا التمييز ما بين "الثوار" الذين كانوا يأملون وبرغبة حقيقية في تغيير البلاد نحو الافضل وما بين اللصوص والمجرمين  ومهربي السلاح وتجار البشر والمرتزقة كما المتطرفين الارهابيين، أضحى معها تحويل ليبيا إلى واحة ديمقراطية وإعادة بناء مؤسساتها أمرا في غاية الصعوبة ان لم يكن من المستحيلات .

 

بل على العكس أن الواقع الليبي كشف الرؤيا الحقيقية للإمبريالية الغربية التي كانت حاضرة في الميدان منذ البداية وبقوة، وهي رؤيا اتضح انها تهدف إلى تمزيق ليبيا إلى دويلات متناحرة تسهل معها نهب ثرواتها والتحكم بمقدراتها وتقاسمها، واهمها النفط الذي كان ولايزال يعتبر المورد الاساسي لكثير من الدول الاوروبية المطلة على البحر الابيض المتوسط كفرنسا وايطاليا وبريطانيا وغيرها .

 

والآن وبعد مرور ست سنوات على سقوط النظام ومقتل القذافي بظروف غامضة وشنيعة كانت أيادي حلف الناتو هي التي مكنت المعارضة  من امتلاك القدرة على الوصول اليه وكذلك بالمساعدة العسكرية المباشرة وحتى الاستخباراتية، والسؤال المطروح اليوم وبكثير من الإلحاح والجدية يتعلق ويتلخص بما آلت اليه الاوضاع الليبية بمكوناتها الثلاثة الوطن والشعب والقضية ؟

 

والإجابة على هذا السؤال تتجلى بسلطة هشة لايمكنها السيطرة لا على الوضع الامني ولا الاقتصادي ولا حتى حماية نفسها من دون غطاء خارجي، وهي سلطة لم تستطع الرباعية الدولية وهي الجامعة العربية والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة من تأمين الحماية السياسية ولا المظلة الامنية، وحتى انها لم تستطع وبكل جهودها وإمكانياتها الكبيرة من مجرد وقف لإطلاق النار بالتالي إنهاء العمليات العسكرية، ولا حتى إطلاق العملية السياسية اللازمة في مثل هذه الظروف، على الرغم من النجاح في إنتاج مؤسسات سياسية سيادية كالمؤتمر العام والمجلس التمثيلي الذي يشبه ما يوازيه من مجالس نيابية وبرلمانية ولا حتى تشكيل قوة عسكرية وشرطة مركزية تكون قادرة على اعادة الامن ووقف الحرب الطاحنة المتنقلة في كل الأرجاء والمدن .

  إلا ان كل هذه الجهود لم تستطع أن تقدم للشعب الليبي إلا نصيحة مضحكة مبكية بنفس الوقت مفادها انه لا يوجد أمامه أي حل عسكري للصراع، وأن تسوية المأزق الليبي السياسي والأمني  لن تتم وتنجح إلا من خلال الحوار والتزام كافة الأطراف أصحاب المصلحة بحل خلافاتهم بشكل توافقي وفي إطار الاتفاق السياسي الداخلي، وهذه الخلاصة الفضفاضة والتي تكون في العادة لازمة نهائية وكخلاصة  وامنية لانهاء كل الازمات وبؤر التفجير كما حصل قبلا في الأزمة السودانية التي انتهت بتقسيمه إلى شطرين شمالي وجنوبي وعلى اساس عرقي وديني، وكما تطرح الان في الوضع الصومالي واليمني والسوري والعراقي .

 

ومن سخرية القدر ان هذه الخلاصة والوصفة لم يكتب لها النجاح في اي بلد من البلدان التي شهدت صراعا داخلياً وحروباً مدمرة الا بعد اطلاقها من الداخل الوطني وليس عبر اعتمادها كوصفة طبية قادمة من الصالونات السياسية التي يتربع عليها عدد من الحكماء. وهو ما يدعو إلى التساؤل عن إمكانية التفاؤل بنجاحها على الارض الليبية، بل على العكس فان هذه المعادلة ابعد ما تكون عن التحقيق على ارض الواقع بسبب كثير من الاعتبارات وعلى رأسها عدم رغبة من يطلقها على تحقيقها وترجمتها على ارض الواقع

 

وانطلاقا من هذا الواقع الجلي يكمن التساؤل الآخر حول قضية أساسية ومفصلية تتعلق بالمجتمع الدولي وجديته في اعادة اعمار ليبيا سياسيا واقتصاديا وعلى الاقل اعادة ما دمره الحلف الاطلسي خلال حملته الجوية التي استمرت لستة اشهر متتالية والتي استهدفت معظم المنشآت الليبية الحيوية قبل وبعد إسقاط القذافي وهي تستأنف حاليا بين الحين والآخر، خصوصا عندما يقترب أحد الأطراف من تحقيق اي شكل من أشكال الانتصار على الارض والذي سرعان ما يُستهدف حتى من حلفائه المفترضين. وهذا الاهمال الدولي والذي يبدو متعمدا خصوصا وان اي عملية من هذا النمط لا يكلف المجتمع الدولي اي تكاليف على اعتبار ان ليبيا تمتلك ما يؤهلها للنهوض في اعمار ما تهدم ودمر خلال السنوات الماضية بشكل سريع وما يؤهلها لاحداث نقلة نوعية تؤدي الى تحقيق سلام واستقرار على نحو سريع.

 

وهذا الواقع الغريب الذي يعيشه الليبيون حاليا والذي لم يكن أي من " الثورجيين" الجدد يتوقعه ولا حتى في أحلامه في بناء ليبيا الجديدة كما وعدهم اسيادهم حلف الناتو وغيره ليكتشف الشعب الليبي انه تعرض لاكبر عملية خداع في التاريخ صاغتها اجهزة استخبارات متعددة الجنسيات والمصالح ليتفاجأ الشعب الليبي انه يعيش ظروفا لا تختلف كثيرا عما يعيشه الصومال وهو امر جعله يترحم على القذافي وحكمه .

 

 وخلاصة القول ان الوضع الليبي الحالي يسير ويتجه إلى مزيد من التأزم، المترافق مع امكانية اندلاع جولات جديدة من الصراع الدموي ستؤدي في النهاية الى نتائج مختلفة عما هو الوضع الحالي تتميز هذه المرة ببروز قوى وطنية عصبها الجيش بعد تجميع فلوله والذي بدأت طلائعه تظهر من خلال قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يبدو انه يتجه بمعركته نحو العاصمة طرابلس بالذات في مسعى لاستعادة التوازن، وهو بدأ بالسيطرة او اعادة السيطرة على الموانىء النفطية في منطقة الهلال النفطي الى الجنوب الغربي من بنغازي والتي ستترافق مع خروج جماعي لمقاتلي جيش شورى الدولة وهو امر ظهر في حديث للواء حفتر لانصاره في طرابلس باقتراب الاستجابة لمطلبهم باقتحام المدينة وقوله لهم  ان أصواتكم وصلتني وان قواتنا قريبة جدا منكم ومن العاصمة.

 

ولهذا بدأ المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق بدعوة القبائل والنشطاء والقوى المختلفة وحتى الحشود الإعلامية إلى البدء بشن حملة مضادة ضد قوات اللواء حفتر مستغلين ما قيل عنه بارتكاب جرائم إنسانية وهي ليست بالاولى ولن تكون الأخيرة وقد مارسها مختلف القوى والعصابات  الاجرامية التي ادّعت الثورة، من دون الكشف عليها وهو امر سيضع ليبيا امام تطورات ستمهد في النهاية لتدخل اقليمي مختلف ومباشر ومن اطراف كانت حتى الامس القريب تكتفي بالمراقبة وهي مدعومة من قوى عالمية ستؤدي الى اعادة  ليبيا إلى الحد الأدنى من الاستقرار السياسي والامني والاقتصادي تفتح الافاق لمعركة الإعمار والبناء الحقيقي للمجتمع الليبي من كافة جوانبه وهو ما سيؤدي في النهاية بالتزامن إلى عودة شخصيات ورموز قيادية على شاكلة سيف الإسلام القذافي كرجل انقاذ ومرحلة، فهل يتحقق هذا الاحتمال الذي يبدو انه احتمال جدي خصوصا بعد إخفاق مختلف المبادرات والمحاولات للحلول الداخلية والخارجية.

أحمد النداف