الحد الأدنى الذي يقبل به الفلسطينيون دولة على حدود 1967، وهو ما يعتبر من قبلهم أقصى درجات التنازل عن الأرض، والتي بموجب القرار الأممي 181، والذي نص على قيام دولتين عربية ويهودية وعلى مساحة تقارب الخمسة والأربعين، وهو ما يعني تنازل عن خمس وعشرين في المائة من الأرض ،وهو ما لم يحدث في كل تاريخ حركات النضال الوطني أن يتم هذا التنازل من أجل السلام ، ويضاف إليه من وجهة النظر ذاتها تنازل عن ثمانين في المائة من مساحة فلسطين التاريخية. والحد الأقصى لإسرائيل عدم القبول بأي شكل من أشكال الدولة أو الهوية الكينونية القومية للفلسطينيين، لما يعني ذلك من تقلص واختزال فكرة إسرائيل الكبرى وعودتها من جديد لفكرة الفيتو الحدودي أو القومي ، وهذه المرة بفضل قيام الدولة الفلسطينية .

ولم تكن فكرة الدولة الفلسطينية على مدار تاريخ الصراع، أحد مكونات الفكر الصهيوني والسياسي الرسمي للحكومات الإسرائيلية. وحتى عندما تم توقيع اتفاقات أوسلو، الفلسطينيون اعترفوا بإسرائيل الدولة، وإسرائيل لم تعترف، أعترفت بالمنظمة الممثل الوحيد للفلسطينيين. وشتان بين الاعترافين في القانون الدولي المنشأ للدول. وهذا خطأ إستراتيجي وقع فيه الفلسطينيون، كان يفترض أن يكون الاعتراف متبادلاً ومتماثلاً أي اعتراف بالدولة الفلسطينية تحت الاحتلال، وبعدم اعتراف إسرائيل كأنها لم تعترف بأنها دولة احتلال، ومن ثم تصرفت بكل حريتها، وتحت مظلة هذا الاتفاق والاعتراف بكل الأراضي الفلسطينية، بتهويدها واستيطانها وبزيادة عدد المستوطنين ليزيد عن نصف مليون، أي أنها قد نجحت في خلق دولة استيطان كاملة.

وإذا كان لهذه السياسات من دلالة سياسية فهي عدم الإيمان بفكرة الدولة للفلسطينيين تحت أي شكل من الأشكال، فإسرائيل ترفض فكرة الدولة ذاتها، والحديث هو في حلول تتعامل مع السكان. من هنا تبرز فكرة الحكم الذاتي، وفكرة حكم البلديات، أو فكرة السلطة الوظيفية وأخيراً فكرة السلام الإقليمي والوطن البديل في الأردن. وفكرة الدولة المؤقتة في غزة دون ذكر فكرة الدولة حتى على نموذج غزة وفكرة الدولة المنقوصة. هذه الرؤية تتوافق مع الفكر الصهيوني، وفكرة القومية اليهودية، وأرض إسرائيل الكبرى، وان قبول إسرائيل بصيغة الدولة بكل أشكالها مرفوض، وخصوصاً فكرة الدولة الواحدة التي تعتبر نقيضاً للأيديولوجية الصهيونية وكل مقولاتها، ومن ثم إنهيار الأساس الذي قامت عليه إسرائيل كدولة تسعى أن تكون لشعبها فقط. وكما أشار بيريز إلى أن خيار الدولة الواحدة يعني فقدان إسرائيل يهوديتها وديمقراطيتها اليهودية، و قول بن جوريون الذي فضل دولة يهودية في جزء من أرض إسرائيل على دولة غير يهودية تقوم في كل البلاد. وحذر شلومو غزيت من خيار الدولة الواحدة، وأنه يسير بإسرائيل نحو خرابها، ودعا إلى تكرار نموذج غزة في الضفة الغربية. ودعا المعلق أرييه شافيط إلى رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين، وإعادة تأهيلهم في دول اللجوء. هذا الرفض هو القاسم المشترك في الفكر والخطاب السياسي لكل الأحزاب السياسية في إسرائيل يمينها ويسارها ووسطها. لا للدولة الواحدة تحت أي شكل ومسمى. والإشكالية لا تقف عند حدود رفض فكرة الدولة الواحدة ثنائية القومية أو الدولة الديمقراطية الواحدة، بل رفض فكر أن يكون للفلسطينيين دولة خاصة بهم في حدود 1967,وإذا كان منطق رفض الدولة الواحدة يقف ورائه الحفاظ على الهوية اليهودية من الطغيان السكاني الفلسطيني ، فإن منطق رفض قيام دولة فلسطينية ملاصقة وفى قلب إسرائيل يحكمه منطق واعتبارات أمنية وسيكولوجية وإستراتيجية ، ويستند هذا المنطق الذي يروج له وزير التربية والتعليم نفتالي رئيس حزب البيت اليهودي إن أي دولة فلسطينية في حال قيامها ستكون ضعيفة وغير قابلة للحياة، وتفتقد للموارد الاقتصادية والطبيعية، ولا تتمتع بالتكامل الجغرافي، من شأن مثل هذه دولة أن تقع في يد الحركات المتشددة مثل حماس، مما يعني أن تكون كل الكتل السكانية الإسرائيلية تحت رحمة هذه الحركات. ولذلك يطالب بضم كل المستوطنات، وحزبه من وقف وراء قانون التسوية وشرعنة الاستيطان. هذا عن الموقف الإسرائيلي الذي يدعم من نظرية جدلية الصراع وديمومته. وما عبر عنه ميرون بنيفييستى إن هذا البلد ويقصد إسرائيل لا يحتمل حدوداً في وسطه، ولا هو يطيق دولتين سيدتين بين البحر والنهر. وماذا عن الموقف الفلسطيني ؟ الفلسطينيون في خط تراجع واضح من المطالبة بفلسطين التاريخية، إلى الدولة ثنائية القومية إلى الدولة الديمقراطية الواحدة وأخيرا لخيار حل الدولتين، والتلويح الان بالعودة لخيار الدولة الواحدة، ولو من باب الضغط على إسرائيل وتخييرها بين حل الدولتين، أو بين حل الدولة الواحدة مع إدراكهم أن إسرائيل قد دفنت خيار حل الدولتين، ورفضها المطلق لخيار الدولة الواحدة. ورغم ذلك ما زال هناك أمل بأن إسرائيل والمجتمع الدولي والولايات المتحدة ستدرك إن خيار حل الدولتين هو الخيار الواقعي، والوحيد لتسوية الصراع، وانه لا مفاوضات بدون الالتزام بخيار الدولتين. ولو تساءلنا أيهما أفضل للفلسطينيين خيار الدولتين أم الدولة الواحدة، بالتأكيد ستكون الإجابة خيار الدولة الواحدة، فهو الخيار الأكثر جاذبية، يركز على الحقوق الفردية والمدنية لا على تقرير المصير، وتغيير مفهوم الصراع حول صوت واحد لمواطن واحد، ويحول عناصر الضعف الفلسطيني إلى قوة، ويفقد إسرائيل مقومات القوة لديها، وأن هذا الخيار يحقق ويحافظ على فكرة فلسطين من البحر للنهر. إلا إن الحديث عن حل الدولة الواحدة يقف ورائه الإحساس بفشل إتفاقات أوسلو، والفشل في قيام الدولة الفلسطينية، وأن الحجة الأساسية التي تقف وراء هذا التفكير أن فكرة حل الدولتين باتت مستحيلة، ولذلك لا حديث إلا الدولة الواحدة، وهو حديث يعود إلى عقود طويلة، وكان ممكنا في عشرينيات القرن الماضي عندما كان اليهود أقلية كما أشار إلى ذلك الكاتبان اليهوديان بوير، وماغنس ،أما اليوم وبعد أن أصبح اليهود هم الأغلبية، وما تم من إنجازات سياسية واقتصادية وتكنولوجية وأمنية، لا يمكن تصور تنازل إسرائيل عنها، لذلك يبقى هذا الخيار في عالم الطوبابويات المثالية البعيدة، فكيف إذا كان خيار الدولتين وهو الأقرب للواقع لم يعد قائماً كيف في حل الدولة الواحدة؟ وفي هذا السياق على الفلسطينيين أن يعيدوا ترتيب أهدافهم الإستراتيجية، وتحديد أولوياتهم في إنهاء الاحتلال أولاً، ثم الحديث عن فكرة الدولتين، وبدون إنهاء الاحتلال لا مجال للحديث عن دولة فلسطينية، وهو ما يستلزم التركيز على خيارات وآليات ووسائل إنهاء الاحتلال، والتركيز على خيار الحقوق الإنسانية والمدنية للفلسطينيين، وتفعيل خيار المسؤولية الدولية بإنهاء الاحتلال، بالتوازي مع العمل على الارتقاء بمستوى تمثيل الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة لدولة كاملة العضوية تحت الاحتلال وتشجيع الدول باعترافها بالدولة الفلسطينية الكاملة، والخطوة الأولى تبدأ بالعمل على إنهاء الاحتلال وجعل له ثمناً إسرائيلياً وعربياً ودولياً.