لا يكفي في تشخيص الحالة الإسرائيلية تسليط الضوء على أعمدة بناء هيكلها السياسي الاجتماعي والاقتصادي والقانوني، وتحديد أهدافها الأساسية ضد الشعب الفلسطيني وشعوب الأمة العربية، وإبراز هوية دولة النظام كدولة فوق الفاشية، دولة إبادة جماعية، إنما نحتاج إلى وضع سيرورتها تحت المجهر دومًا لمراقبة أبعادها، وتأثيراتها الآنية والمستقبلية، دون تغييب مرتكزاتها الرئيسية للربط الديالكتيكي بين الظواهر المختلفة، ولتعميق الفهم لظاهرة دولة النظام السياسي اللقيط، لعل ذلك يساعدنا في تأكيد قراءتنا السابقة، أو استشراف عوامل الهدم الإضافية فيها.
ومن الظواهر القديمة الجديدة في جيش الاحتلال الإسرائيلي، برزت حركة أطلقت على نفسها "براشيت" تضم عشرات الضباط والجنود برئاسة أوريا لوبربوم، تعكس هذه الحركة حالة من التذمر والاحتجاج داخل صفوف الجيش، ويعكسون حالة الإحباط والرفض لمواصلة الحرب القذرة، والمطالبة بوقفها، وتطالب بتبادل الأسرى بالرهائن الإسرائيليين، ورفضهم الخدمة العسكرية في جيش الاحتياط. رغم محاولات الدولة وبعض وسائل الاعلام الإسرائيلية إخفاء صوتها، والتعتيم عليها، إلا أن صحيفة "هآرتس" كشفت عنها الأربعاء في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر الحالي.
وفي لقاء مع رئيسها لوبربوم عرف حركته، بأنها حركة ليست سياسية ولا حزبية، وهي تضم جنودًا وضباطًا ينتمون إلى اليمين واليسار، وأضاف أن الحركة تضم أصواتًا بعضها يطالب بالحسم العسكري القوي، وآخرون يطالبون بوقف الحرب فورًا، والتوجه إلى صفقة تبادل أسرى، وبينهم من يطالب بوقف العمليات ضد الفلسطينيين. لكن ما يوحدهم جميعًا، هو أنهم يرون في إدارة الحرب فشلاً ذريعًا، يضاف إلى إخفاقات منع هجوم "حماس" في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وهي إخفاقات يُلقون بالمسؤولية فيها على الحكومة بالأساس بما في ذلك الجيش، ويحملون نتنياهو المسؤولية الأولى.
وكانت الحركة وجهت رسالة إلى الحكومة ورئيسها ولرئيس أركان الجيش، نشرتها "هآرتس" في ذات التاريخ، وقع عليها 130 ضابطًا وجنديًا من الجنود الاحتياط، ومجندون ينتمون إلى سلاح المدرعات، وسلاح المدفعية، وقيادة الجبهة الداخلية والقوات الجوية، تتضمن تحذيرًا من أنهم لن يخدموا بعد الآن، ما لم تعمل الحكومة على الحصول على صفقة بشأن الأسرى، ووقف إطلاق النار، وجاء في الرسالة "من الواضح الآن أن استمرار الحرب في غزة لا يؤخر عودة الأسرى فحسب، بل يعرض حياتهم للخطر أيضًا، فقد قتل الكثير منهم بضربات الجيش الإسرائيلي، أكثر بكثير من أولئك الذين تم انقاذهم في العمليات العسكرية".
والتقت "هآرتس" عددًا من الجنود المتذمرين، منهم "يريف" الذي قال لست مستعدًا للمشاركة "في معركة كاذبة لا تنتهي، ولا نعرف متى وكيف تكون نهايتها. فلا يعقل أن تدير الحكومة حربًا كهذه بلا هدف واضح، ولسنا مستعدين للموت في سبيله".
وقال أساف (29 عامًا): "نحن نشعر بأننا نضحي بحياتنا وعائلاتنا لأجل مجموعة من المتطرفين الذين يريدون إبادة الفلسطينيين، ليس لنا ما نفعله في غزة ولا في الضفة. هناك ندافع عن سياسة متطرفة لخدمة الاستيطان والقوى الدينية المتطرفة، التي باتت تغزو الجيش".
وقال يوتام فليك، الذي يقود فيلقًا: أنه "يعتبر نفسه رافض خدمة لأسباب ضميرية. ولم يعد مستعدًا للقتال في سبيل أهداف غير صهيونية، مضيفًا: "إسرائيل لا تفعل شيئًا لإطلاق سراح المخطوفين. تنازلت عن أبنائها، وأنا أنظر إلى نفسي وإلى ما نفعله للفلسطينيين في غزة، ولا أستطيع أن أنظر في المرآة، إسرائيل خانتني وخانت المبادئ الإنسانية التي أومن بها، المطلوب الذهاب إلى صفقة".
وكشفت بعض المصادر الإعلامية، اتساع ظاهرة التذمر والاحتجاج داخل صفوف الجيش، بتعبير آخر، لا تقتصر حركة الاحتجاج على حركة "براشيت"، ومن بين الجنود المتذمرين من اختار الاحتجاج بكتابة شعارات على السيارات العسكرية، ومن بينها "نتنياهو جيد للعرب"، ويقصدون بها، أن "فشل نتنياهو يخدم أعداء إسرائيل".
وبدأت حملة الاحتجاج هذه مطلع السنة الحالية، عندما بدا أن جيش الاحتلال الإسرائيلي طالب بوقف الحرب والتوجه إلى صفقة تبادل أسرى، لكنها اتخذت شكلاً صامتًا وتعمدت العمل داخل الجيش بلا ضجيج، حتى لا تخدم "العدو". وفي شهر حزيران/يونيو الماضي، ظهرت إلى العلن للمرة الأولى بكتابة شعارات احتجاجية، انتقدها الناطق باسم الجيش قائلاً: "ليس من المعقول أن يتصرف الجنود بهذا الشكل عمومًا، فكم بالحري في خضم الحرب".
في النتيجة، هذه الحركة الاحتجاجية وغيرها، آخذة في التوسع داخل مختلف قطاعات جيش الاحتلال الإسرائيلي الاحتياط والنظامي والفرق المختلفة، بسبب مضاعفة الإحباط، والشعور بانتفاء وجود الهدف، سوى هدف شخصي لرئيس الائتلاف الحاكم، ولأقرانه من الصهيونية الدينية، واعتقادهم العميق، أن الحكومة ضحت بالأسرى الإسرائيليين، وينظرون لأنفسهم فيما لو تم أسرهم، بأن مصيرهم لن يكون أفضل حالاً من مصير الرهائن، وقالت زوجة أحد الذين التقتهم "هآرتس" في حال مت سأكتب على قبرك عبارة "مات غبيًا".
ومع ذلك، وعلى أهمية هذه الحركات المتذمرة، إلا أنها ما زالت حركات ضعيفة، وغير مؤثرة. لأنها غير موحدة ولا منظمة، رغم أنها تضاعف من توسيع دائرة الإحباط داخل صفوف الجيش، وداخل المجتمع الإسرائيلي، إلا أن سادة إسرائيل في الغرب الامبريالي بقيادة الولايات المتحدة، قادرة على أن تعوض حكومة الإبادة الجماعية الإسرائيلية بالمئات والآلاف من المرتزقة لتوسيع دائرة الإبادة في أوساط الشعبين الفلسطيني واللبناني.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها