خاص- مجلة القدس- العدد 334 شباط 2017
بقلم: محمد سرور

القضية الفلسطينية طريدة المؤتمرات والقصور هذه الأيام. هي لا تشبه أعياد الربيع، فلا نوروز ولا أعراس وحقول زهر وورد، وقد يكون العكس صحيحا، حيث الخوف العميق يجتاز قلوبنا وما تبقى من عزائم... يكاد الخوف هنا أن يفتح بيوت عزاء لم نشهد مثلها من قبل.
من ميونيخ إلى طهران مرورا باسطنبول... يتسع البازار للكثير من التأويل والبيع والشراء. ثمة من تبارى  وأسهب في أداء طقسه الاحتفالي- العبادي... وما أكثرهم الذين يدوّرون زوايا اللغة والكلام وتوزيع الاشارات والرموز إلى هذا البلد وتلك العاصمة. للأسف كان هناك من أجاز لنفسه ربط فشل المقاومة والانتفاضة في فلسطين بقمع السلطة الوطنية، كأن النضال الوطني الفلسطيني في واد والأمني الوطني الفلسطيني في واد آخر. والانكى مما سبق  اعتبار رد السلطة على الافتراءات الباطلة وحمّالة الاوجه السياسية مساسا بعصمة وقداسات... متناسيا أن من يفتح النار عليه توقع الرد المناسب لافتراء تجاوز حدود المنطق وأخلاقيات السياسة.
ولمن فاته أمر اللحظة أن يبدأ من نقطة انطلاق الحملة الانتخابية للرئيس الاميركي دونالد ترامب. وعلى خطباء هذا الموسم أن ينتبهوا جيدا إلى تقاطعاتٍ كثيرة بين نبرات أصواتهم وخلاصات خطبهم مع كلام سلطات الاحتلال واقتراحاته، ومواقف الادارة الاميركية الجديدة تجاه حل القضية الفلسطينية... أو التخلص من مشكلة "الاراضي" حسب التعريف الحرفي الاسرائيلي للحل.
ولمزيد من التوضيح، ينبغي قراءة الخلاصات التاريخية والفكرية للطاقم المختص بالشأن الشرق أوسطي المحيط بالرئيس الاميركي الذي قام بقراءة تاريخية مفصلة منذ ما قبل هجرة النبي"ص" إلى المدينة، مرورا بصلح الحديبية، وإسقاطه على فلسطين، واتفاق أوسلو الذي وقعه الشهيد ياسر عرفات مع رئيس حكومة الاحتلال آنذاك إسحاق رابين. خلاصة قول المقربين من ترامب تقول: لا أمان للمسلمين ولا عهد لهم.
وإذا كنا نقرأ جيدًا، علينا طرح السؤال السائد والبدهي هذه الايام: لماذا تقسيم العالم الاسلامي بين سني وشيعي؟ ولماذا تصر القيادة الاسرائيلية على أنها متحالفة مع دول الاعتدال العربي- السني، فيما الاخيرة لا تؤكد الخبر ولا تنفيه.
من خلال البعد الانغلوساكسوني العرقي- العنصري يبني ترامب مواقفه المبدئية، ومن خلاله يربط بين قضية فلسطين والاسلام، وبطريقة خبيثة- مكشوفة- لمن يبحث عن حقائق السياسة الاميركية. فالعداء كامل وشامل ضد كل من هو إسلام وامتدادا ضد كل من يؤيد القضية الفلسطينية ويقف إلى جانب شعبها ضد احتلال ظالم ومتغطرس. هناك مساحة مناورة تستعملها الادارة الاميركية الجديدة تعمل على التأليب وافتعال العداوات واستعمال جهة ضد جهة اخرى في الشرق الاوسط والعالم الاسلامي الفاقد للحيلة والعديم المناعة والارادة.
النظرة الاميركية العدائية للامم المتحدة ترتبط أيضا بموقف هذه الهيئة الدولية- رغم أنها عديمة المفعول والحيلة تجاه الاجراءات الاحادية التي تتخذها إسرائيل ضد الاراضي الفلسطينية المشمولة بالقرارات الدولية ذات الصلة، ولأن إسرائيل الدولة الوحيدة في عالمنا التي لا تلتزم أيه قوانين واخلاقيات تحد من جموحها وتحديها للارادة الدولية. ما تريده ادارة ترامب حرفيا مباركة الاحتلال الصهيوني للاراضي الفلسطينية وإلغاء القرارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية وبالتالي التخلي عن دورها وتحييد قوانينها عن الشأن الفلسطيني- الاسرائيلي، وبذلك يصبح كل ما قامت وتقوم به اسرائيل من إجراءات وأعمال عدوانية على مرّ تاريخها العنصري الأسود مجازا وقانونيا... ولا حق لغيرها في هذا العالم بالتدخل في شأن يصبح حصريا من حق دولة الاحتلال الصهيوني. فهل تنجح الولايات المتحدة في فرض أجندتها الخاصة بالقضية الفلسطينية؟
الثابت الاول الذي لا تستطيع الولايات المتحدة وإسرائيل تغييره هو فرض شتات آخر على الشعب الفلسطيني. والثابت الثاني هو العجز عن تليين الرفض القاطع الذي أعلنته وتعلنه القيادة الفلسطينية تجاه مطلب نتنياهو "يهودية دولة إسرائيل". والثابت الثالث، وأيا كان التمادي الاستيطاني الصهيوني فوق الاراضي الفلسطينية، هو قدرة الصهاينة على فرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني وقيادته. بمعنى آخر هناك استحالة في أن يصبح واقع الحال الذي سعت وتسعى إلى فرضه حكومة العدو أمرا يلغي حق الشعب الفلسطيني التاريخي والثابت في تقرير مصيره وامتلاك زمام أمره في إقامة دولته المستقلة فوق أرضه المحتلة.
لا تستطيع حكومة العدو وداعموها التصرف على طريقة العصابة تجاه الشعب الفلسطيني إلى الابد. وإذا كان التخلي العربي عن القضية الفلسطينية بلغ مرحلة غير مسبوقة من خلال انشغال مفتعل بواسطة التجييش الاميركي- الصهيوني، المرفق بانعدام حيلة عربي- إسلامي يغير مسار بوصلة الصراع والاولويات في المنطقة، إلا أن القضية الفلسطينية كانت ولم تزل وسوف تبقى رافعة مثالية للواقع المزري الذي يراد تأبيده وحصره كي تظهر إسرائيل خلاله أنها الطرف الاقل خطورة والصديق الذي يمثل الحل لاختلال موازين القوى مع إيران الفارسية، التي تمثل العدو النموذجي لعرب "الخليج" وإسرائيل معا.
لذلك وأيا كان مسار الواقع ومصير المنطقة الجيوسياسي، فإن بيد الفريق الفلسطيني أوراق المقاومة الشعبية الدائمة و"غير المسلحة". وترسيخ دعائم السلطة وقوانينها ومؤسساتها، تحت كل الظروف القاسية والقاهرة، والعمل مع القوى والمؤسسات والهيئات الدولية على فضح السياسة الصهيونية فوق الاراضي المحتلة والدفع باتجاه إدانتها كمتمردة وخارجة على القوانين والاعراف الدولية، أي العمل على كشف الوجه القبيح لدولة الاحتلال التي لم تزل "الدولة الديموقراطية الوحيدة" في الشرق الاوسط، حسب زعم مندوبة الولايات المتحدة في الامم المتحدة نيكي هالي.
وإذا كانت بعض القوى الفلسطينية مصرة على التمادي في بيع ولاءاتها لهذة الدولة وتلك، معتقدة أنها تملك حقائق المستقبل بالنسبة لقضيتها وشعبها، من خلال المقولة المعادة والمكررة حول تحرير فلسطين بالمقاومة، ومن خلال خطابها التخويني ضد السلطة الفلسطينية، فإنها بذلك تحاول القفز خطوات في الهواء. فهي من جهة تحاول إدامة قبضتها على القطاع المحاصر والمنهك، بواسطة سلطة امتهنت البلطجة وإهانة كرامات العباد. ومن جهة ثانية تخفي كونها جزءاً من مشروع إقليمي- إسلاموي عابر للكيانات ولا يعترف بالهويات الوطنية. ومن أجل ذلك تستعمل سياسة الهجوم الدائم على السلطة الوطنية وكل معارض لسياستها، حيث تمثل تلك السياسة قناعًا يخفي ارتباطها العميق والعقيم بكل من دويلة قطر وتركيا العثمانية، أي بالدولتين المميزتين بعلاقة تامة واستراتيجية بالكيان الصهيوني والولايات المتحدة الاميركية. كيف تترجم حماس مفهومها للمقاومة وهي على هذا المستوى من الارتباط والرعاية من هاتين الدولتين؟
ما سبق يعيدنا إلى السؤال: هل طرح هؤلاء على أنفسهم فرضية فشل رهاناتهم؟ هل تعمل الدول وفق تمنياتهم، أم بما يتناسب مع مصالحها؟ هل قضية فلسطين تسبق مصالح الدول أم العكس؟ القانون لا يحمي مغفلا، والطريق نحو المستقبل يحتاج إلى بصيرة وانتماء لا ضباب يغلفه ولا شك في القبض على جمره.
تحتاج فلسطين إلى قلوب محبة لا إلى أمراء تكفير وأئمة تحسب الناس رعايا وأدوات لمشروع لا مكان فيه لقضيتهم العادلة. تحتاج فلسطين إلى عقول تزين الوقت بميزان الذهب، إلى غيارى على اليوم والغد، وإلى جنود يسيرون بخطى متراصة وواثقة نحو الحرية وتقرير المصير، لا يتلهّون بعداواتٍ ولا يسألون عن ملة سياسية ومذهبٍ فكري. فلسطين تحتاج أبناءها، كل أبنائها، لأنها للكل.
ثمة من سوف يندم بعد فوات الاوان، خاصة من فاته شرف خدمة شعبه ورفع لواء مصلحته عاليا. فتحصين هذا الشعب لا يكون إلا بالوحدة والنضال من اجل إنهاء الاحتلال وبناء كيانه الذي يحفظ كرامته ويوطد سيادته على أرضه بنفسه.
لقد مرّت القضية بمصاعب ومحن كثيرة واستمرّ نضال هذا الشعب العظيم... فلا ترامب ولا أي معتد على الحقوق الفلسطينية سوف ينال من إرادة وعزيمة هذا الشعب.