بقلم: صقر أبو فخر

خاص -مجلة القدس العدد السنوي 333

المعروف في تاريخ حركة فتح أن الكلام على تحديد موعد لبدء الكفاح المسلح بدأ يدور في الأذهان منذ شباط 1963. وفي اجتماع اللجنة المركزية للحركة الذي عُقد في منزل الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) في دمشق في 1/9/1964 أٌقر موعد إطلاق الرصاصة الأولى في 5/9/1964، أي في اليوم نفسه لعقد مؤتمر القمة العربية في الاسكندرية. لكن المجموعات الفدائية المسلحة لم تتمكن من الوصول إلى أهدافها، وحُمِّل الشهيد ياسر عرفات المسؤولية  عن ذلك. وبسبب ما حصل جرى تأسيس "القيادة العسكرية" المؤلفة من ياسر عرفات وأبو يوسف النجار وآخرين. وهذه القيادة هي التي اتخذت، في ما بعد، قرار الانطلاقة في 1/1/1965 في اجتماعها في دمشق في منزل أبو جهاد في تشرين الأول 1964. آنذاك كتبت مجلة "فلسطيننا" في عددها الأخير الذي صدر في 1/11/1964 ما يلي: الرأي العام العالمي لا يحترم إلا الأقوياء. سنفعل كل ما في وسعنا من أجل اللحظة التي ستُطلق فيها الرصاصة الأولى والتي من بعدها سننال احترام العالم(...). ألف قذيفة كلام لا تساوي قذيفة معدنية واحدة" . وهذا بالضبط ما كان يردده ياسر عرفات وأبو جهاد، بل إن شعارهما آنذاك كان "طلقة على الحدود خير من ألف كلمة".

في تلك المرحلة، حين لم تتمكن المجموعات الأولى الوصول إلى غاياتها في 1/9/1964 لأسباب خارجة على الإرادة، استاء ياسر عرفات، وانتقل على الفور إلى الميدان مباشرة، وكان يقود سيارة فولكسفاغن رقمها 9625، ويستخدمها في التنقل بين سورية ولبنان، وينقل فيها الأسلحة والذخائر. ومع إعلان الانطلاقة اعتقلته دورية للجيش اللبناني وأمضى في السجن قرابة الشهر. وأمثولة "القيادة في الميدان" بقيت القاعدة الأساس في تفكير عرفات وفي سلوكه معاً. ففي حادثة مقتل النقيب يوسف عرابي في 9/5/1966 تكرر الأمر نفسه مع أبو عمار. وتلك الحادثة جرت في منزل لحركة فتح في حي المزرعة بدمشق كان يسكن فيه أبو عمار وممدوح صيدم ( أبو صبري) وأبو العبد العكلوك وزكريا عبد الرحيم (أبو يحيى). وفي تلك الحادثة المشؤومة حضر إلى ذلك المنزل النقيب يوسف عرابي (نقيب فلسطيني في الجيش السوري) ومحمد حشمة والملازم الأول عدنان العالم (ضابط فلسطيني في الجيش السوري). وفي ذلك اللقاء وقع تلاسن بين يوسف عرابي وبعض الحاضرين، الأمر الذي أدى إلى إشهار يوسف عرابي مسدسه، فما كان من عبد المجيد الزغموت إلا أن تناول رشاشه وأطلق النار، فقُتل يوسف عرابي وقتل خطأ محمد حشمة. وجراء هذه الحادثة حضر النقيب منيب المجذوب، وهو ضابط فلسطيني كان يتولى الأمن السياسي في وزارة الداخلية السورية، واصطحب معه زكريا عبد الرحيم وأبو العبد العكلوك وعدنان العالم، ثم أوقفهم كشهود على الحادثة، ثم اعتقل ياسر عرفات وأبو جهاد وأبو صبري ومختار بعباع. ولم تلبث المحكمة العسكرية أن تركت ياسر عرفات بعد نحو أربعين يوماً من الاعتقال وكانت أطلقت أبو جهاد قبله، وكذلك عدنان العالم، وبرّأت أبو صبري ومختار بعباع.

بعد هذه الحادثة اتخذت حركة فتح قراراً بتجميد ياسر عرفات ورفاقه ثلاثة أشهر كبادرة حسن نية للقيادة السورية، مع أن أبو عمار لم يكن موجوداً في ذلك المنزل في أثناء وقوع الحادثة. فلم يُرضِه هذا القرار، وما كان منه، استناداً إلى قواعد السلوك الثوري ومنها "القيادة دائماً في الميدان"، إلا أن شكّل مجموعة فدائية، واتجه بها نحو الحدود اللبنانية – الفلسطينية لتنفيذ عملية فدائية، أو على الأقل لرصد واستطلاع مواقع اسرائيلية تكون هدفاً للعمليات المقبلة. وفي 20/7/1966، أوقف آمر سرية مشاة يدعى الملازم الأول سعد حداد شخصاً مع اثني عشر فدائياً كانوا يستعدون لتنفيذ عملية عسكرية ضد اسرائيل عند بلدة العديسة – كفركلا، ونُقل الجميع إلى ثكنة طانيوس الحلو في بيروت. وكان ياسر عرفات يعرِّف عن نفسه بأنه رقيب في الجيش السوري يدعى محمد مصطفى. ولم يقتنع المحققون بذلك لأن لهجته كانت مصرية وفي نهاية المطاف، وبعد خمسة وأربعين يوماً من الاعتقال، اكتشف المحققون اللبنانيون أن "محمد مصطفى" هو ياسر عرفات الذي كان اسمه معروفاً، أما صورته فلم تكن معروفة. فنقلوه إلى مكتب غابي لحود في وزارة الدفاع في اليرزة حيث كان في انتظاره كل من سامي الخطيب وعباس حمدان. وهناك عومل كقائد عسكري كبير، وأعيدت الأسلحة إلى مجموعته، ونُقلوا جميعاً إلى جديدة يابوس، وكان في انتظاره عشرات الضباط من الجيش السوري بينهم رئيس الاستخبارات الخارجية الرائد لويس وردة ومسؤولون مدنيون فلسطينيون وسوريون. وكان في عداد المجموعة الفدائية ياسر عرفات وأبو علي إياد وخالد أبو العلا وسعيد الشرعان وحسين الهيبة ونعيم الوشاحي.

 

الدخول إلى الضفة الغربية

قبل عام 1967 عملت فتح على تنظيم الشبان في الضفة الغربية وتخزين الأسلحة، وإرسال البعض إلى معسكر الهامة في سورية لتلقي التدريب ثم العودة إلى مدنهم وقراهم. واستمر العمل العسكري بين مطلع العام 1965 وأيار 1967 على ما هو عليه من تسلل وزرع ألغام وإغارة، علاوة على بناء القواعد السرية وتثبيت هيكلية تنظيم الحركة. لكن هزيمة الخامس من حزيران 1967 أصابت الجميع بالاضطراب والارتباك. وكان وقوع الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان تحت الاحتلال الاسرائيلي قد أوجد وضعاً جديداً تماماً لم يكن في الحسبان على الاطلاق، الأمر الذي جعل حركة فتح تنتقل بسرعة من مرحلة التأسيس وبناء القواعد السرية إلى مرحلة بناء قواعد الاسناد الثابتة في الأردن والجولان. ولإعادة الإمساك بالأوضاع التنظيمية في الضفة الغربية، وتطوير العمل العسكري، قاد ياسر عرفات فريقاً قوامه أبو علي المدني وعبدالإله الأثيري وأحمد قمحية ومحمود أبو راشد ومازن أبو غزالة وممدوح صيدم وعمر أبو ليلى وعبدالعزيز شاهين وعبدالحميد القدسي ومنصور أبو راس وعبدالله السوري ومحمد علي عمران، وتسللوا إلى الضفة الغربية من مخاضة مرج نفحة عند نهر الأردن. ومنذ البداية سلم ياسر عرفات قيادة الدورية إلى عبدالحميد القدسي، وتولى بنفسه جميع القرارات التنظيمية والمالية وقرارات التحرك من مكان إلى مكان، وعمليات الاتصال.

دخل ياسر عرفات ورفاقه إلى الضفة في 1/8/1967، أي بعد أقل من شهرين على احتلالها، وغادرها في 24/8/1967، ثم عاد مرة ثانية في 29/8/1967 وغادرها إلى دمشق في أوائل تشرين الثاني  1967 غداة اعتقال عبدالعزيز شاهين (أبو علي) في 25/9/1967 وهذه العملية تمثل ذروة الشجاعة، ومثالاً صادقاً لقاعدة "القيادة في الميدان". وفي تلك الأيام تمكن ياسر عرفات من إقامة قواعد عسكرية في جبال عتيل وعلار وكفر لبد ودير البلوط وقباطية، حتى أن إحدى القواعد في وادي القف تمكنت من إسقاط طائرة استكشاف إسرائيلية في 13/9/1967، وقتل الطيار والمراقب الذي كان يجمع المعلومات بالمنظار والذي يجلس إلى جانب الطيار والمشهود له أن أبو عمار أقام برهة في حي القصبة في نابلس، وحين اكتشفت المخابرات الاسرائيلية مكانه لم يعثروا فيه إلا على بقايا طعام، أما هو فكان قد توارى في شقة قريبة. ثم لم يلبث ان انتقل إلى رام الله وأقام في المنزل رقم 6 في شارع العزيز قريباً من مطعم نعوم، وهناك التقى فيصل الحسيني. وعندما اكتشفت المخابرات الاسرائيلية التي كانت تطارده في كل مكان مخبأه، كان قد فرّ إلى مكان آخر . ثم انتقل إلى القدس، وأقام في المنزل رقم 4 في شارع القديس مرقص. وحين طوّقت القوات الاسرائيلية المكان، لم تعثر عليه، لأنه انتقل إلى بيت لحم. وكثيراً ما كان يتسلل من موقع إلى آخر على دراجة نارية أو في سيارة مع زوجة أحد الفتحاويين ويضع طفلها على ركبتيه كأنهما زوجان. وفي بعض المرات اجتاز حواجز اسرائيلية بسيارة تابعة للأونروا يقودها مصطفى عيسى اللفتاوي (أبو فراس) الموظف آنذاك في الوكالة. وقليلون جداً يعرفون أن الشهيد ياسر عرفات ذهب إلى غزة في تلك الفترة مع عبدالحميد القدسي الذي طلب من زوجة خاله وابنتها مرافقتهما للتغطية. وفي أثناء إقامة أبو عمار في الضفة الغربية تسلل أكثر من مرة إلى القدس وتجول في المكان الذي عاش فيه سنوات طفولته، وهذه شجاعة كبرى.

 

الانطلاقة الثانية

نجح ياسر عرفات وأبو جهاد من تحقيق إنجازين في الفترة القصيرة بعد هزيمة الخامس من حزيران 1967 هما: إعادة تأسيس الخلايا العسكرية المقاتلة في الضفة الغربية ( وهذه كانت مهمة أبو عمار بالدرجة الأولى)، وتنظيم شبكة الإمداد وبناء قواعد الإسناد السرية في الأردن ( وهذه كانت من المهمات الرئيسة للشهيد ابو جهاد). وجرى تنشيط معسكر الهامة القريب من دمشق لاستيعاب الأعداد الجديدة من المتدربين. وفي 28/8/1967 بدأ شن العمليات العسكرية في ما اعتُبر الانطلاقة الثانية لحركة فتح. وتوهمت القيادة الاسرائيلية أن في إمكانها القضاء على الفدائيين بعملية عسكرية كبيرة، تقضي على قواعد الإسناد شرق النهر وعلى الفدائيين المرابطين فيها، فقامت في 21/3/1968 بالهجوم على بلدة الكرامة التي كان يرابط فيها نحو 300 مقاتل من فتح وقوات التحرير الشعبية. وعندما بدأ تقدم الآليات الاسرائيلية أصدر اللواء مشهور حديثة القائد العسكري الأردني لمنطقة نهر الأردن أوامره إلى المدفعية الأردنية بقصف الدبابات الاسرائيلية المتقدمة، فأوقع بها إصابات مباشرة كثيرة ثم التحم الفدائيون بالقوة الاسرائيلية المهاجمة في معركة كبرى بجميع المقاييس قادها مباشرة على الأرض، وفي الميدان، ياسر عرفات بنفسه. وأسفرت عن انسحاب الجيش الاسرائيلي إلى مواقعه السابقة بعدما تكبد 28 قتيلاً و90 جريحاً، ودُمِّرت له 4 دبابات وخمس عربات وطائرة واحدة. وفاقت النتائج السياسية لهذه المعركة أي توقع؛ فتدفق آلاف المتطوعين الفلسطينيين والعرب، ولاسيما من سورية والعراق، على قواعد حركة فتح في الأردن، وقامت بعض المجموعات الفدائية الصغيرة بحل تشكيلاتها والانضمام إلى فتح مثل "جبهة التحرير الوطني الفلسطينية – طريق العودة" و"جبهة ثوار فلسطين".

في كانون الأول 1968 صدرت مجلة "التايم" الأميركية وعلى غلافها صورة ياسر عرفات، وقالت إنه سيكون واحداً من أخطر الرجال في الشرق الأوسط، وربما في العالم. وهكذا خطت حركة فتح بقيادة ياسر عرفات خطوة جبارة نقلتها من حركة مقاومة إلى حركة تحرر وطني، بل إلى إحدى أبرز حركات التحرر الوطني في العالم الثالث. وهذا كله محصلة لشعار "القيادة في الميدان".