في كل عام منذ توليه رئاسة الشعب الفلسطيني عام 2005، وهو يحرص على إلقاء خطاب عن حال الشعب الفلسطيني، ومكابداته وتعقيد ظروف حياته الناجمة عن جرائم الحرب والانتهاكات لدولة الاستعمار الإسرائيلية لا سيما أنه يعتبر المنبر الأممي الأول محطة هامة لمخاطبة دول العالم وممثليها في الجمعية العامة، ويسعى بشكل دؤوب لانتزاع منجزات إيجابية لصالح ترسيخ السردية الوطنية في مواجهة الرواية الإسرائيلية المزورة والكاذبة.

وهذا العام أسوة بالأعوام الماضية ألقى خطابًا لمدة 40 دقيقة، وجال فيه على نقاط الصراع المتعددة، وإن كان لهذا العام أهمية خاصة؛ حيث شهد تحولاً خطيرًا في مجرى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وخاصة مع ارتكاب دولة إسرائيل الفاشية الإبادة الجماعية غير المسبوقة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني وعلى المستوى العالمي في التاريخ المعاصر. لذا يمكن وصفه بالخطاب الشامل، لأنه لم يبق شاردة أو واردة، إلا وسلط الضوء عليها. وبدأ وختم سيادة الرئيس محمود عباس خطابه بجمل قصيرة، أكد فيها على المؤكد في مسيرة الكفاح الوطنية التحررية، والتي عكست الإرادة والتصميم على البقاء في أرض الوطن، والدفاع عنها حتى بلوغ هدف التحرير، بدأ بالقول "لن نرحل، لن نرحل، لن نرحل"، و"فلسطين وطننا،"، وأضاف: "وهي أرض آبائنا وأجدادنا"، و"ستبقى لنا". وختم مؤكدًا بإصرار المناضل "فلسطين سوف تتحرر، وشعبنا سيواصل حياته في أرض آبائه وأجداده. كما فعل لأكثر من ستة آلاف سنة، وسيواصل كفاحه المشروع من أجل الاستقلال، والاحتلال حتما إلى زوال".

وقبل أن يعرض رؤيته لليوم التالي لحرب الأرض المحروقة، عرض مأساة ومعاناة وكارثية الوضع الناشئ عن الإبادة الجماعية في قطاع غزة والوطن الفلسطيني عمومًا، وأشار إلى عمليات القتل والإبادة والأمراض والمجاعة والأوبئة وابالقنابل والصواريخ الأكثر تطورًا وفتكًا بالإنسان، أسلحة الدمار الشامل الأميركية، التي حمل "واشنطن" مسؤوليتها الكاملة عن عدم وقف الإبادة الجماعية، وتعطيلها اتخاذ قرار في مجلس الأمن لثلاث مرات، وحتى عندما تم الاتفاق على قرار في مجلس الأمن، ما زالت ذات الإدارة تماطل وتسوف بذرائع وحجج واهية لإطالة أمد الحرب المجنونة. وأكد أن القدس، كانت وما زالت وستبقى عاصمة دولة فلسطين، وحوضها المقدس وخاصة المسجد الأقصى وما حوله، للشعب العربي الفلسطيني وتحديدًا لاتباع الديانة الإسلامية في فلسطين والعالم، بما في ذلك حائط البراق.

وسلط الضوء على فجور وهمجية إيتمار بن غفير، وزير ما يسمى الأمن القومي، الذي دعا إلى بناء كنيس في المسجد الأقصى، ورفع العلم الإسرائيلي، بهدف إشعال فتيل حرب دينية، وطالب العالم بملاحقة القيادات الإسرائيلية المتورطة في الإبادة الجماعية، ورد على ادعاء بنيامين نتنياهو، بأنه لم يقتل المدنيين الفلسطينيين، وتساءل عباس، من الذي قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وما يزيد عن 40 ألف شهيد، ونحو 100 ألف جريح، غير المفقودين؟ ومن الذي دمر مئات الآلاف من الوحدات السكنية والمدارس والجامعات والمعابد من كنائس ومساجد، وأخرج الغالبية من المستشفيات والمراكز الصحية عن الخدمة؟ وطالب المجتمع الدولي بفرض العقوبات على إسرائيل المارقة والخارجة على القانون، ودعا العالم للارتقاء لمستوى المسؤولية الأخلاقية والقانونية والإنسانية لإجبار إسرائيل على وقف حربها فورا وبشكل دائم.

وأكد الرئيس عباس على أهمية الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، الذي أعتبره نقطة تحول تاريخية وهامة في مسار القضاء الأممي، وطالب المجتمع الدولي بتنفيذ الرأي الاستشاري للمحكمة الأممية خلال عام من اعتماد الجمعية العامة له بأغلبية تزيد على الثلثين من الأعضاء، وثمن دور الشعوب والدول الداعمة لكفاح الشعب الفلسطيني في مواجهة الإبادة الجماعية، كما ترحم على روح الشهيدة الأممية عائشة نور، وأكد أن الشعب الفلسطيني سيكرم المناضلة أميركية الجنسية وتركية الأصل. وطالب بتجميد عضوية دولة إسرائيل في الأمم المتحدة، التي لم تستوف شروط العضوية، كونها لم تلتزم بتنفيذ القرارين الأمميين 181 و194، وأكد أن دولة فلسطين ستقدم مشروع قرار لتجميد عضويتها في الأمم المتحدة.

وقدم رؤيته لليوم التالي للحرب الإسرائيلية الهمجية من 12 نقطة، وتتجلى في: الوقف الشامل والدائم والفوري لإطلاق النار في قطاع غزة والضفة بما فيها القدس العاصمة الفلسطينية؛ إدخال المساعدات الإنسانية بصورة عاجلة وبكميات كافية وبدون شروط، وإيصالها لمناطق القطاع كافة؛ الانسحاب الإسرائيلي الكامل من قطاع غزة، ورفض إنشاء مناطق عازلة، أو اقتطاع أي جزء من القطاع، ووقف إجراءات التهجير القسري داخل أو خارج القطاع، وعودة النازحين لمدنهم ومخيماتهم، وتوفير السكن الملائم لهم؛ حماية الأونروا والمنظمات الإنسانية من التعسف والانتهاكات الإسرائيلية، وتأمين الدعم السياسي والمادي له؛ توفير الحماية الدولية للفلسطينيين عمومًا على أرض دولتهم المحتلة؛ تولي دولة فلسطين مسؤولياتها في القطاع لتمارس ولايتها الكاملة عليه، بما في ذلك المعابر الحدودية، وعلى رأسها معبر رفح الدولي؛ بسط سلطة دولة فلسطين والحكومة الفلسطينية ومنظمة التحرير، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني على جميع الأراضي الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، تمهيدًا لإجراء الانتخابات العامة، وتشكيل حكومة فلسطينية وفقًا لنتائج الانتخابات؛ الاستمرار في حشد أكبر دعم دولي من أجل رفع مكانة دولة فلسطين لدولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة في أسرع وقت؛ التنفيذ الكامل لقرار الجمعية العامة المتعلق بالفتوى القضائية لمحكمة العدل الدولية، بما يؤدي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي خلال اثني عشر شهرًا؛ عقد مؤتمر دولي للسلام تحت إشراف الأمم المتحدة خلال عام لتنفيذ حل الدولتين، وتكريس استقلال دولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وعودة اللاجئين الفلسطينيين لديارهم، على أساس القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، ومبادرة السلام العربية؛ اعتماد قوات حفظ سلام دولية بقرار من مجلس الأمن بين دولة فلسطين وإسرائيل، لضمان أمن الدولتين.

وترك الباب مفتوحًا للجمعية العامة بتبني رؤيته أو تعديلها. ولعل هذه الرؤية الشاملة والمحددة تشكل بالإضافة لما حمله الخطاب من رسائل هامة في أثناء العرض لمأساة ونكبة الشعب العربي الفلسطيني، لعل العالم وهيئاته الدولية ترتقي لتحمل مسؤولياتها الأممية تجاه مصالح وحقوق الشعب الفلسطيني.