خاص مجلة "القدس" العدد 328 تموز 2016
بقلم: صقر أبو فخر

طوال ثلث قرن تقريباً بعد النكبة كان الفلسطينيون أكثر الشعوب العربية تسيُّساً ونضالية. وهذا أمر بدهي لمن فقد بلاده بالقوة الاستعمارية القاهرة. واليوم، بعد نحو ثمانية وستين عاماً على النكبة صار الفلسطينيون في مخيمات لبنان أكثر الشعوب العربية تراجعاً في ميدان السياسات، ومدعاة للأسى، لأن بعض المخيمات، خصوصاً عين الحلوة، تكاد تشتعل بالقتل الهمجي والاغتيال الدوري في كل يوم والقتل الذي نشهده في عين الحلوة وفي المية ومية هو سلاح الذين أداروا ظهورهم لقضية فلسطين، وحوّلوا رؤوسهم نحو جيوبهم؛ إنه سلاح الحاقدين والعاجزين . والعاطلون عن النضال وحدهم يتجرأون على هذا الطراز من الفن الدموي الذي يفتك بالبقية الباقية من الناس . والمؤكد أن الجماعات الإرهابية التي ما فتئت تتحصن في بعض أحياء عين الحلوة حوّلت تلك الأحياء إلى مجتمع للصراصير؛ فهي تتقاتل على أي شيء، بعدما كان هذا المخيم ويغره من المخيمات مجتمعات للنحل يتعاون جميع أفراده في سبيل الحرية والعودة.
تحت انقاض المخيمات الفلسطينية المدمرة في لبنان دُفنت تذكارات جميلة عن حياة الفلسطينيين في ديارهم الأصلية، وطمرت آلاف الصور والمشغولات اليدوية والوثائق وأوراق الطابو التي تشكل جزءاً من الميراث الانساني للشعب الفلسطيني . غير أن جماعات القتل والجريمة والإرهاب ستتكفل بإدارة ما هو أثمن من الصور والوثائق، أي الانسان، أو ستجبره على الهجرة. وبهذا المعنى، لا تختلف تلك الجماعات الدموية عن الصهيونية على الاطلاق مهما تبرقعت بجلابيب الشعارات السياسية عالية النبرة، أو وضعت على رؤوس أعضائها الكوفية الفلسطينية.
إن ما يشهده مخيم عين الحلوة، وجواره أيضاً ، يثير الحيرة أحياناً. فهذا المخيم الذي كان في إحدى المراحل ميداناً لصنع المستقبل، بات منذ فترة غير قصيرة حقلاً للتباري على الرثاثة وعلى العودة إلى ماضٍ موهوم لن يعود، وصار أشبه بكهف تعشش فيه كائنات لا علاقة لها بالماضي البهي للنضال الوطني الفلسطيني، ولا بالمستقبل الذي يتطلع إليه الفلسطينيون في مخيماتهم. ولعلنا نستطيع القول إن الخروج الكبير لمنظمة التحرير الفلسطينية من لبنان في آخر آب 1982 كان علاقة فاصلة بين عالمين: عالم النضال الوطني شبه العلماني الذي كان جزءاً من ثقافة العصر وتمدنه وتطلعاته، وعالم الارتكاس إلى الانغلاق والانعزال عن العصر والعودة إلى أفكار انتهى مفعولها منذ مئات السنين. وبدلاً من افتخار أبناء المخيم بأن ناجي العلي درج في أزقة مخيمهم، صار هؤلاء يخجلون من الكائنات الإرهابية التي تعبث بحياتهم اليومية أمثال بلال بدر هيثم الشعبي وتوفيق طه وغيرهم كثيرين.
نعلم تماماً كيف بدأت التحولات الفكرية في المجتمع الفلسطيني، وهي نفسها التحولات التي شهدتها المجتمعات العربية أيضاً. فالالتفات الى التدين اليومي وسلوكياته الطقسية كالصلاة والصوم وغطاء الرأس للنساء كان شأناً طبيعياً ومفهوماً في أواخر سبعينيات القرن المنصرم، خصوصاً غداة انتصار الثورة الاسلامية في ايران في سنة 1979. لكن الانجراف إلى التكفير والتبديع والتفسيق وهي بضاعة غريبة على الفلسطينيين، علاوة على فسادها، هو ما أورث المخيم ألغاماً لا ندري متى ستنفجر وتدمر حتى خرائبه الباقية.
في الماضي دمرت اسرائيل النبطية. ودمرت الميليشيات الانعزالية تل الزعتر وجسر الباشا وقسماً من مخيم ضبية. وتسببت المجموعات التكفيرية من طراز "فتح الاسلام" بتدمير مخيم نهر البارد. واليوم ربما تتسبب هذه الجماعات الأميبية المتناسلة في إهلاك مخيم عين الحلوة. ومن العار أن يتحول هذا المخيم إلى أحياء مغلقة ومتقاتلة. وبين حطين وصفورية وطيطبا تعبث كائنات مروِّعة وتحيل حياة الناس إلى جحيم يومي. وبعدما كان هذا المخيم أيقونة النضال الوطني الفلسطيني، صار نقطة علامة  لكل مَن يريد أن يرمي الفلسطينيين بالكراهية والعنصرية. وللأسف، فإن الحياة اليومية في هذا المخيم باتت كالحة، وأفئدة الناس مرتعشة، وغادرت الطمأنينة عيون المواطنين، واستوطنت الرثاثة في زوايا المكان، وتشتت الجميع هنا وهناك في ديار الله الواسعة. فالأبناء الذين كبروا صاروا في منافي العالم، وبعضهم احترق في أتون المعارك في سورية والعراق. والشبان الذين كانوا في ميعة العمر استشهدوا أو قُطعت أطرافهم في العنف المتمادي. والفتيات اللواتي تزوجن في مرحلة الآمال الوطنية صرن أرامل، والأمهات الثكالى يتجرعن كؤوس الحرقة في كل يوم، والآباء الذين انتظروا العودة إما ماتوا بالحسرة أو يعيشون على احتراق السكر في دمائهم أو على المرارة في دموعهم المنسكبة وكوابيسهم الهاذبة. آن الأوان منذ زمن بعيد لإنهاء هذا الوباء وانقاذ الفلسطينيين من الرعاع والأوباش. إن حياة الناس هي قيمة لا تفوقها أي قيمة، وامتهان كرامة المواطنين هو عار لا يمكن التسامح معه ، وما عاد الصمت ممكناً. بالأمس عبّر بعض الشبان في المخيمات عن ضيقهم بالدعوة إلى الهجرة. واليوم يعلن كثيرون عن رغبتهم في دخول الجيش اللبناني إلى عين الحلوة وفرض الأمن وتخليص الناس من الذين يعيثون في الأرض فساداً وفي السماء فساداً أيضاً. ومهما تكن دوافع الناس لرفع هذا النداء أو ذاك، فإن الواضح أنهم يطلقون صرخة استغاثة بعدما فقدوا الأمن والرضا وغمرهم القلق والاضطراب والموت اليومي.
إنهم يطفئون الأمل ويمسحون الذاكرة ويقتلون حلم العودة، فليرحلوا عن المخيم ولو بالقوة. ولعلي لا أجازف بالقول ان لا أحد يستطيع أن يعيد الأمن والطمأنينة إلى المخيم من دون منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح. وهذا الأمر يحمّل المنظمة وحركة فتح مسؤولية كبرى، وهي ضرورة الإقدام على تخليص المخيمات من الوجود المادي للتكفيرين أكان ذلك بالتعاون مع السلطات اللبنانية، وهو شأن ضروري في أي حال، أو من دونها ولا بد من قطع دابر الارهاب التكفيري عاجلاً مهما يكن الثمن، لأن نهاية مكلفة أفضل من تكلفة بلا نهاية.