تشهد الامة العربية مرحلة غاية في التعقيد والتداعي لركائز ومعالم القومية، والتي تمظهرت في: إفلاس الانظمة القطرية، وانخراطها في حروب اقليمية وبينية، ومازالت حتى اللحظة، حتى أسهمت بفتح ابواب الوطن العربي للقوى الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة، التي عملت على تمزيق وحدة الدولة الوطنية، وبددت الطاقات والامكانيات العربية، وللاسف ساعدتها في ذلك دول عربية منحازة للخيارات والسياسات الاميركية؛ غياب اي دور للقوى والاحزاب الوطنية والقومية في الدول وعلى المستوى القومي، وغرقها في دوامة ازماتها البنيوية؛ عدم وجود خطط تنموية حقيقية لا على الصعيد الوطني ولا على الصعيد القومي، وان وجدت في بعض الدول بالمعايير النسبية، تم تبديدها عبر عوامل خارجية. وفقدان الدول لأبسط معايير الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير وحقوق الانسان، حيث بقي الانسان بلا قيمة؛ وإنكفاء وتراجع مكانة الثقافة والمثقف العضوي الفاعل في المشهد المحلي والعربي على حد سواء.

كما ان العوامل الموضوعية لعبت دورا مهما فيما آلت اليه الاوضاع في البلدان العربية كل على انفراد وبشكل جمعي شمل الوطن العربي برمته. التبعية للرأسمالية وسوقها؛ الحروب العربية الاسرائيلية وحرب العراق مع إيران، والحروب العربية العربية ثم الحروب الدولية العربية ضد العراق، والآن قيام اميركا وإسرائيل بافلات تنظماتها المسعورة من الجماعات التكفيرية لتنهش آخر قلاع القومية العربية باسم الدين والطائفة والمذهب، وبالمقابل التذرع بتلك الحروب لفرض انظمة الطوارىء، وحرمان المواطنين العرب من حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية الثقافية.

حالة التهشم والتضعضع لصورة القومية، افقدتها مكانتها، وأمست من الماضي، وبات البعد والخطاب الديني يحتل مكانها، لتمزيق ما تبقى من الامة العربية وهويتها القومية، ولتقدمها القوى الدينية لقمة سائغة لقوى الرأسمالية والحركة الصهيونية لتعيد صياغتها وفق مشيئتها ومخططاتها الاستعمارية. الامر الذي يستدعي من القوى الغيورة على الحضارة والثقافة والهوية العربية، العمل على استنهاض همم وطاقات شعوب الامة من خلال تحفيز المثقفين العرب في ساحات وميادين الامة كلها وفي المهاجر، لتتكامل الجهود في الارتقاء بالوعي القومي الفردي والجمعي، والتصدي الجاد والحازم والمتواصل لكل الافكار ذات المرجعيات الدينية، التي لا هم لها سوى المزيد من التفتيت لطاقات ومصالح الامة وشبابها وثرواتها.

من المؤكد ان الخطاب الثقافي النهضوي لوحده لا يكفي، ويحتاج إلى ادوات وروافع وطنية وقومية، ما يستدعي نشوء قوى واحزاب جديدة او تغيير الهيئات القيادية الموجودة، وإخراج الاحزاب من متاهة التعثر والضياع والموت الكلينيكي، الذي تعيشه منذ عقود. واعادة الاعتبار للهوية القومية الحداثوية، القادرة على حمل هموم كل شعب على انفراد وشعوب الامة ككل، والتأصيل لبناء انظمة ديمقراطية، تقوم على ركائز حرية الرأي والتعبير والتظاهر والتنظيم والمساواة بين المرأة والرجل والتداول السلمي للسلطة والانتخابات الدورية والتكامل بين الدول العربية على المستويات كافة، وخلق ميكانيزمات التنمية المستدامة وتطوير البرامج التربوية لتتوافق مع روح العصر، وقطع الصلة مع مبدأ التبعية، واقامة العلاقات مع الدول على اساس الندية والمساواة والتكامل.

كانت الثقافة التنويرية والمثقف العضوي، ومازال عنوان النهضة والخروج من نفق المشروع الاميركي الاسرائيلي واضرابهم. وآن الآوان للتمرد على واقع الحال المزري والبائس لاعادة الاعتبار للمشروع القومي النهضوي.