الأفكار تخلَّتْ عن جماليَّاتها، ولم تعدْ تقوم على أساس شحنات المنطق والأحلام السامية المفترض أن تتضمَّنها. لقد هزلت إلى مستوى الارتباط الوثيق بآليات تسويق الخراب الناشطة في المنطقة- العربية حصرًا بعد أن تمَّ تهشيم الهويّات الوطنية وعاد الولاء إلى أولياته العشائرية- القبلية- المذهبية- أي إلى عهد ما قبل نشوء الدولة.
يجب أن لا ننسى أن التعديل الأول لخارطة سايكس بيكو هو  سلب جزء من الخارطة العربية- بالمعنى التاريخي أقيمت عليه ما يسمى دولة إسرائيل العنصرية. وبعد أن تمَّ خلال السنوات القليلة الماضية تهشيم الدولة الوطنية بمعناها التاريخي في العديد من بلدان المنطقة من خلال مشروع الشرق الأوسط الجديد، القاضي برسم جغرافية دول جديدة تقوم على التصادم المباشر بين المكونات المختلفة للدولة، بدأت المرحلة الثانية من مشروع سايكس بيكو- رقم 2، الذي بشَّر به المحافظون الجدد إبان حكم الجمهوري جورج دبليو بوش وإدارته التي أنتجت وسوَّقت وعملت على هذا المشروع التدميري. العديد من دول المنطقة غارق حتى أذنيه في رسم آليات وتمويل فكرة دولة الخلافة ونقل الصراع من حلقته الطائفية إلى أخرى مذهبيَّة حماية لبقائها وتماشيا مع الخطة الأميركية وصونًا أبديَّا للمشروع الصهيوني- وبالطبع بالتحالف معه. فيما دول أخرى- تحاول تجميل خطابها وتقديم نفسها على أنها الحامي الحقيقي لشعوب المنطقة، لكن للتاريخ دروسا وعِبرًا أصيلة، منها ما قال: للدول مصالح... يجب رؤيتها على حقيقتها وبعيدًا عن خطابها المعلن.
الذي جعل هذا المشروع التدميري قابلا للحياة هو الأرض الخصبة التي أنتج حيثيّاتها نظام الإستبداد الذي أرست دعائمه سلطات إنقلابية على المستويين العسكري والحزبي- المتشدِّد منذ استقلال الكيانات العربية وحتى أوان سقوط العديد منها، وبحجة التسابق على حمل لواء القضية الفلسطينية وتحرير فلسطين... للأسف هؤلاء أكثر من آذى القضية وأصابها في الصميم.
مقابل ذلك جرى تغييب مطلق للنخب المثقفة والمهنية المتخصصة التي تستطيع النهوض بالوطن وتحديثه بما يتناسب مع تطلعات الشعب وحاجاته. هذا التغييب الذي أخذ أشكالا متعددة من الترويض والتحييد والسجن والتهجير القسري مما أدى إلى إفراغ الدولة من مقومّات نهوضها وتقدّمها، ناهيك عن انخراط هذا النظام أو ذاك في اللعبة الإقليمية كشكل من أشكال تأكيد الحضور وتكريس سطوة المصالح الضيقة، مما أهدر الدخل الوطني في متاهات استثمرتها الدول الكبرى بشكل مميز وفاضح. فالتدخل السوري في الشأن اللبناني لم يكن خارج نطاق منظومة حكومات المنطقة، بل في سياقها، حيث التدخل العراقي في أكثر من شأن، ناهيك عن حرب الخليج الأولى وصولا إلى احتلال الكويت التي جلبت الويل للنظام نفسه وللعراق وللمنطقة بأسرها. كذلك تدخل نظام القذافي في الكثير من الأقطار العربية والإفريقية... ثم الصراعات الداخلية المرتبطة بالعقل القبلي- العشائري ثمَّ الطائفي والمذهبي.
فقدان الدولة الوطنية مكانتها وتماسكها أفسح في المجال للقوى الشمولية- الأيديولوجية العابرة للحدود والكيانات، فعاثت دمارًا وخرابًا بالجغرافيا السكّانية وبالسياق الإجتماعي الذي يعبّر عن التنوّع الديني والثقافي، مما أدخل العديد من البلدان في إشكاليّات عميقة لن تشفى من تبعاتها خلال العقود القادمة.
تدمير آخر وخطير أكملته هذه القوى هو التاريخ الذي يشكل الحاضنة الضامنة التي تضمن وتضبط إيقاع العلاقات الداخلية وترفع من شأن الهويَّة الوطنية المتشكلة من مسار تاريخي عميق العلاقة بالزمن والحضارات الغنيَّة بالتجارب والتراكمات التي تجسِّد مكانة وجذريَّة العلاقة بين مكوّنات المجتمع والأرض التي يتعايش فوقها الجميع.
عندما تحدَّثنا عن تسويق الأفكار المتشدِّدة والمجرَّدة من قيم التسامح، صار سهلا الإنتباه إلى حجم تفكك البنية الوطنيَّة- بمعنى المساس الجوهري بالروح التي تسكن جسد الجغرافيا التي يقوم عليها الوطن المستهدَف. هذه القوى التي جيءَ بها كي تحلَّ محل النظام القديم عملت وبكل جرأة وسرعة على هدم كل ما يشكل خطرًا على بقائها واستمرار حكمها القائم على أساس ديني لا يحتمل أنصاف الحقائق والمواقف. فهو مشحون بطاقات غرائزية كبيرة وعميقة لا تتورَّع عن القيام كل ما من شأنه إشباع الطاقة الغريزية العابرة للحدود والمواثيق والقيم المعهود بها في الزمن المعاصر.
إذًا التسويق الحالي لا يحتاج إلى حقائق وقيم سامية وثقافات حداثويَّة ونهضويَّة كي يستثمرها بين شعوب وجماهير متعطشة للتغيير وللمستقبل الواعد والمطمئن. فالعقل المتهتك- الفاقد للرؤى والقادر على التفكير المجدي الذي يفصل بين ضرورة تغيير النظام القاصر عن إيجاد الإجابات والحلول الملائمة للمستقبل وبين قدسيَّة الوطن- الدولة، سهَّل على المشاريع العابرة للحدود نخر البنيان الإجتماعي- الإنساني الذي يشكّل الهوية التي تحمي وتضمن حياة الناس.
إن التشدُّد هو السلعة الأخطر التي يتم تسويقها في منطقتنا، وهي لم تعد حكرًا على منطقة أو كيان بعينه، حيث العقل المحاصر بأشكال الإنكسار وفقدان الأمل، الذي احتوته غرائز شتى، قد أوغل في التعرّي من أخلاقيّات وقيم الجمع والإختلاف وصار ضيِّقًا رافضًا للآخر وممسكًا بيقينيَّات غيبية لا مجال فيها لحياةٍ مع الآخر.
الضحيَّة الأولى لهذا الواقع هي الإعتدال، لأن ارتفاع منسوب العصبيّات القائمة على حوافز دنيوية وأخرويَّة أسهم في إلغاء حاسة الإصغاء والإستماع إلى الرأي الجامع والمقرِّب الساعي إلى كسر معادلة الصدام الدموي المفضي إلى تسويات تاريخيَّة تعيد رتق الجرح العميق قبل تخثره ونسببه بقتل الجميع قبل أن يصيرَ الندم بلا قيمة او فائدة.
لا يصير الإعتدال مطلبًا إلا عندما يصطدم المتصارعون بجدار العبث والخبية من إمكانية فرض الأجندات المنفردة لأية قوى من قوى الصراع القائم. إن ذلك يحتاج الكثير من الوقائع التي تثبت تقارب موازين القوى واستحالة الحسم العسكري كضرورة لا بديل عنها للنصر على الآخر. ففي عقلنا الجمعي والفردي لم نعترف مرة بهزيمة ولم نضع خسائرنا إلا في خانة الثمن الطبيعي لفرضيَّة كلفة الصراع، ولم نضع الخسائر المادية جزءًا من خسائر الحرب، رغم تأثيرها الكبير على دورة حياة الناس وارتباطها بغد الوطن وتقدمه، إضافة إلى الإحتساب الدائم للخسارة البشرية في خانة الشهادة والإرتقاء إلى العُلى، حيث جنّات وسعها السموات والأرض... الغريب- العجيب أن موتى اقتتالنا جميعًا هم شهداء، وكلُّ بلغة ثقافته ويقينياته.
إنَّ ما نشهده من ارتداد إلى الماضي مرتبط بغياب ثقافة التنوير المحفّزة على الحياة بكل حيثيّاتها وتطلعاتها وفرصها الماديَّة والمعنويَّة، وبإرث بغيض من الإنكسار والجهل والتحلُّل الإنساني من قيمة التواصل والتفاعل الإجتماعي المفضي إلى تبلور شخصيَّة عامة غير منعزلة عن المدى الوطني والعالمي كأداة للتحديث الإرتقاء إلى مصاف الشعوب والأمم المؤهلة للمستقبل الأفضل. ونتيجة للإفلاس وغياب حافز الحياة حلت  ثقافة الإشباع النزوي المفتوحة على فرضيتي الفوز الدنيوي بالفريسة- التي هي المسبيَّة أو السلطة أو القدرة على التحكم بمصائر البشر... وعلى الفوز بالآخرة- وهي ثانوية قطعًا، لانها غطاء أو تبرير للمرحلة الأولى- مرحلة الإشباع في الدنيا، أللهم فيما ندر من أمثال الإنتحاريين الذين يفجّرون انفسهم بالآخرين- وكل لأسبابه وقناعاته التي تحتمل القراءة والإجتهاد- النفسي والعقلي والديني أيضَا.
إن المحصلة التي ذهب إليها التطرف صعبة ومعقدة، فلا انتصار لقواه ولا غد أفضل ينتظرها، فيما لا قدرة للمتطرف على العودة إلى الحياة- بمعناها الطبيعي المنسجم مع الآخر والقادر على التفاعل الإيجابي معه، لأننا نكون كمن يحاول الجمع بين فصيلتين من الكائنات إحداها مفترسة وتعيش على لحوم الآخرين الذين يراد لها أن تعيش بينهم.
فالمتطرف ناقم- حاقد ونابذ بالمعنى الكامل للكلمة، وغالبًا ما تكون توبته مؤقتة وأشبه باستراحة المحارب- على طريقة الخلايا النائمة. أصعب ما يمكن أن نتخيله هو ذلك الإنسان المعادي للغد وللقوانين الموضوعية التي ابتكرها الإنسان لتسهيل سبل حياته والتفاعل مع الإخر الذي هو ضرورة إنسانية للتكامل الموضوعي مع بتية إنسانية تقوم على التواصل الذي يشكّل المرآة التي تؤكد وجوده وتمنحه مساحة الأنس الكافية لاعتبار الآخر جزءًا أصيلا من ذاته القائمة على ثقافة الإجتماع والتلاقي النسبي بين خصوصيات لها مكانتها في الكيان الوحد الذي يحضتن اهله بكل تنوّعهم.  
عندما ننظر إلى هؤلاء المتوحشين- فاقدي أسباب الحياة والإلفة، نحتار بكيف ننعتهم وبماذا نصنّفهم، لأن بينهم الكثير من ضحايا الظروف والأسباب الموضوعية التي أودت بهم إلى ما هم عليه. فالتعصُّب الذي شحنته آلة إنتاج وإشعال العصبيّات التي تشكّل المصنع الحقيقي الذي يحدّد لهم الدور والأرض والدعم المادي. هؤلاء هم أدوات حقيقية لمشاريع عابرة تجيد إنتاج واقع جديد يمتلك رسما بيانيا لمنظور الغد يتوافق والرؤية المقرَّرة لخارطة الغد، حتى وإن رأيناهم أحيانًا يحاولون التفلت أو التمرُّد على الصانع- المالك الذي منحهم نعمة الحياة وشرَّع لهم الدور والهدف.  
إذًا مسألة التسويق تختصر بوجود الأرض الخصبة للسلعة وللتمويل الكافي لحماية امتيازها كي لا تصبح مشاعًا يستطيع استثماره كل من يمتلك القدرة على المزايدة في بازار شراء المتشدّدين الذين لا أوطان لهم يخافونَ على أهلها ومستقبلهم.
فلسطين وحدها الغريبة الآن... ورغم ذلك لا نرى من برأف بحالها وحال شعبها الذي لن تثنيه عن حقه الصعاب... مهما كبرت.