في 17/5/2015، أي غداة الذكرى السابعة والستين لنكبة الفلسطينيين في 15/5/1948، احتفل البابا فرنسيس بتطويب راهبتين فلسطينيتين قديستين هما مريم بواردي حداد (1846- 1878) وماري ألفونسين دانيال غطاس (1843-1927) في احتفال مهيب في الفاتيكان حضره الرئيس محمود عباس وبطريرك اللاتين فؤاد طوّال، والمطران جورج بقعوني رئيس أساقفة عكا للروم الكاثوليك، والمطران موسى الحاج رئيس أساقفة حيفا للموارنة، ونحو ثلاثة آلاف مسيحي فلسطيني تقاطروا على حاضرة الفاتيكان من الأراضي المقدسة. وقامت الأم إنياس اليعقوب، رئيسة راهبات الوردية، ومعها راهبات من بيت لحم، بحمل ذخائر الراهبتين القديستين.
وفي بيان في هذه المناسبة دعا الرئيس محمود عباس المسيحيين إلى التشبث بالأرض وعدم الهجرة. وكانت الراهبة مريم بواردي حداد ولدت في قرية عبلّين الجليلية، وعاشت في مصر، وتنقلت في خدمتها الروحية بين القدس والإسكندرية وبيروت ومرسيليا، وعملت خادمة في بعض مراحل حياتها إلى أن اختارت حياة الرهبنة في دير للكرمليين الفرنسيين، ثم عادت إلى بيت لحم كي تؤسس أول دير للكرمليين، وتوفيت بحادث وهي في الثانية والثلاثين.
أما ماري ألفونسين غطاس فقد ولدت في القدس، ونذرت نذور الرهبنة، وعملت في إحدى مدارس بيت لحم، وأسست في سنة 1880 راهبات الوردية في القدس التابعة للكنيسة اللاتينية.
إن علاقة الفاتيكان بقضية فلسطين كانت على الدوام علاقة تأييد واحتضان إلا في حالات قليلة جداً واستثنائية. ففي سنة 1975 استقبل البابا وفداً من منظمة التحرير الفلسطينية في سابقة أثارت غيظ إسرائيل وحنقها، وكان هذا اللقاء مقدمة أولى كي تحذو بعض الدول الأوروبية حذو الفاتيكان.
وفي سنة 1982 التقى البابا الرئيس ياسر عرفات فانفتحت أبواب القادة الأوروبيين أمام عرفات. وفي سنة 1993 اعتبر الفاتيكان منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، فسارت أوروبا وراءه. وفي سنة 2014 دعا البابا فرنسيس كلاً من الرئيس محمود عباس والرئيس السابق لإسرائيل شمعون بيريز إلى صلاة مشتركة في الفاتيكان من أجل السلام في فلسطين.
وجاء إعلان قداسة الراهبتين الفلسطينيتين في الأحوال العربية المروِّعة والمضطربة كنسمة صيف في مواجهة الحرائق اللاهبة، نسمة أعادت الاعتبار لفلسطين في الميدان الأممي، ودقت ناقوس الخطر في شأن الأهوال التي يكابدها مسيحيو العراق وسورية اليوم.
إعراب ما استعجم
تناقلت بعض الصحف العربية خبر إعلان قداسة مريم بواردي ومريم (ماري) غطاس بالقول أنهما أول قديستين من فلسطين. والحقيقة أنهما أول قديستين فلسطينيتين منذ عهد الرسل العظام. فالمعروف أن مريم والدة المسيح هي أول قديسة في تاريخ المسيحية، وهي من الناصرة في الجليل. وتبعتها مريم المجدلية وهي من المجدل في الجليل الفلسطيني أيضاً. كما أن القديسين الأوائل كلهم فلسطينيون، أي القديس يوسف والأحد عشر تلميذاً. وأول كنيسة في تاريخ المسيحية هي كنيسة القدس التي أسسها القديس بطرس قبل أن يهاجر إلى روما ويستشهد فيها، ويعلو اسمه أكبر كنيسة في حاضرة الفاتيكان حتى اليوم. والمسيحية وفلسطين كالتوأمين السياميين فمن المحال فصل الأولى عن الثانية. ولا ريب أن فلسطين تزهو على العالم بأسره بأنها قدمت إلى البشرية عقيدة التجدد والانبعاث، ومن تلك الديار المتعالية في شمال فلسطين نزولاً إلى طبرية وغورها، ثم صعوداً إلى بيت لحم وبيت المقدس وامتدادهما، تبلورت العقيدة المسيحية الأولى التي عمت العالم بأسره.
فلسطين لدى المسيحيين هي الأرض المقدسة (تيرا سنطا) التي لا يعدلها في القداسة أي مكان آخر، فمن الناصرة تحدَّر المسيح، وفي بيت لحم ولد يسوع الناصري، وعند الأردن تعمد بماء النهر، وفي كفركنا كانت إحدى معجزاته، وفوق مياه طبرية صنع معجزته الأخيرة قبل الصعود. ومع أن المسيحيين الفلسطينيين تشبثوا دائماً بأرضهم، وبرزوا في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية بقوة، وكان لهم الحضور الكبير في النضال الوطني الفلسطيني منذ سنة 1917 حتى الآن، إلا أن التبدلات الانعطافية التي عصفت بفلسطين منذ سنة 1948 فصاعداً تركت آثاراً اهتزازية في "المجتمع المسيحي" الفلسطيني. ففي أواخر العهد العثماني هاجر الآلاف من المسيحيين إلى دول أميركا اللاتينية هرباً من العسف والتجنيد القسري في الجيش التركي، تماماً مثلما فعل كثيرون من أبناء جلدتهم في بلاد الشام. غير أن ما يحصل اليوم خطير جداً بجميع المقاييس، فها هم سكان الأرض الأصليون، في أوائل القرن الحادي والعشرين، يغادرون ديارهم بأعداد كبيرة في هجرة تشبه، إلى حد بعيد، هجرة بداية القرن العشرين. ولعل أخطر ما تعرض له مسيحيو فلسطين فوق خسارة بلادهم في سنة 1948 هو التهويد والمصادرة. وعلى سبيل المثال صادرت السلطات الإسرائيلية أحد عشر ألف فدان من الأراضي المشجرة بالزيتون في بيت جالا وحدها لبناء مستوطنة "غيلو"، وصادرت آلاف الدونمات من الأراضي العائدة للمسيحيين لشق طريق سريع يربط المستوطنات اليهودية الواقعة جنوبي بيت لحم والقدس. لكن، لم يكد المسيحيون يستبشرون بالتخلص من كابوس التهويد مع قيام السلطة الفلسطينية حتى اكتشفوا أن بعض السماسرة استولوا على أراضي المهاجرين وباعوها بعد إبراز صكوك ملكية مزيفة.
المسيحيّون، إذن، هم سكان فلسطين الأصليون قبل الفتح العربي. غير أن عدد المسلمين راح يتزايد بالتدريج نتيجة للتدفق المتتالي للقبائل العربية على الديار المقدسة وبلاد الشام. إلى أن باتت غالبية السكان من المسلمين. واستطراداً فإن الخط البياني للمسيحيين في فلسطين كان هابطاً باستمرار، وهذا أمر طبيعي في شروط تلك الأيام، ولا سيما مع تحول الكثير من المسيحيين إلى الإسلام إما هرباً من الجزية، أو للاقتناع، أو لأسباب أخرى. لنلاحظ أن نسبة المسيحيين في فلسطين إلى مجموع السكان كانت، في سنة 1890، نحو 13%. لكن، مع بداية الانتداب البريطاني في سنة 1917 هبطت إلى 9.6%. وفي سنة 1931 صارت 8.8%. وفي سنة 1948 أصبحت نحو 8%. أما في سنة 2000 فقد بلغت نسبة المسيحيين في فلسطين قرابة 1.6% فقط، وفي سنة 2015 باتت هذه النسبة نحو 1%، وهذا حال مروِّعة، فعددهم اليوم لا يتجاوز 165 ألفاً، بينهم 140 ألفاً في "إسرائيل" ونحو عشرة آلاف في القدس و50 ألفاً في الضفة والقطاع. وللمقارنة فقط، فقد كان عدد المسيحيين في سنة 1948 في الضفة الغربية وحدها 110 آلاف نسمة. ولو بقي هؤلاء في أرضهم لبلغوا المليون نسمة في سنة 2015، لكنهم اليوم لا يتجاوزون الخمسين ألفاً فقط. وفوق ذلك، فقد كان عدد المسيحيين في القدس سنة 1947 نحو 27 ألفاً، ولو ظلوا في ديارهم لكان عددهم بلغ في سنة 2015 أكثر من 150 ألفاً، بينما لا يتجاوز عددهم اليوم العشرة آلاف.
حقائق وأرقام
في سنة 1922، أي في السنة التي صدر فيها صك الانتداب، كان في فلسطين 196 ديراً وكنيسة لم يبقَ منها حتى سنة 1993، أي في السنة التي جرى فيها توقيع اتفاق أوسلو، غير 48 كنيسة و47 ديراً، فقد جرى تدمير معظم هذه المواقع في سنة 1948 مثل كنيسة قرية البصّة وكنيسة قرية الشجرة. والمشهور أن المسيحيين في فلسطين ساهموا بفاعلية كبيرة في النضال الوطني، وقدموا تضحيات مشهورة في هذا السبيل. وعلى سبيل المثال فإن ثلاثة من أهم مساعدي الحاج أمين الحسيني كانوا مسيحيين هم :إميل الغوري وعزت طنوس وعيسى نخلة. وكان ألفرد روك نائباً لرئيس الحزب العربي الفلسطيني المؤيد للحاج أمين. ومن أعضاء اللجنة التنفيذية لهذا الحزب الذي ترأسه جمال الحسيني كل من يوسف صهيون وحنا خليف. ومن الأعضاء البارزين في الحزب: اسكندر حبش وبترو طرزي ونقولا شاهين واسكندر الخوري وصبري خلف وفؤاد عطا الله وحنا البطارسة وميشال عازر ويعقوب برتقش.
واشتهر الأب إبراهيم عياد في النضال الوطني ضد الصهيونيين، وأُتهم بتدبير اغتيال الملك عبد الله بن الحسين في القدس. ومن أعلام المناضلين الفلسطينيين المسيحيين الشهداء حنا ميخائيل (أبو عمر) وجورج شفيق عسل (شقيق الكاتب منير شفيق) وجايل العرجا (شهيد عملية عنتيبي) وكريم خلف ونعيم خضر وكمال ناصر، علاوة على جورج حبش ووديع حداد ووليم نصار والمطران عطا الله حنا وأنطوان داود من بيت لحم الذي نسف الوكالة اليهودية في سنة 1948، وميشال متري رئيس جمعية العمال العرب الفلسطينيين قبل سنة 1948. ومن أعلام الفكر والأدب والفن خليل السكاكيني وبندلي جوزي وصليبا جوزي وبول غيراغوسيان وجبرا إبراهيم جبرا وكمال بلاطة وجوليانا سيرافيم وفايز صايغ وتوفيق صايغ وأنيس صايغ ويوسف صايغ (هؤلاء الأربعة سوريو الأصل من قرية خربا في السويداء هاجر والدهم القسيس عبد الله صايغ إلى طبرية، ثم لجأ مع عائلته إلى لبنان بعد النكبة) وحليم الرومي ورياض البندك وإدوارد سعيد وسميرة عزام وهنري كتن ويوسف بيدس (مؤسس بنك انترا في لبنان) وحسيب صباغ وسعيد خوري (مؤسسا شركة اتحاد المقاولين 222) ونقولا زيادة وسلفادور عرنيطة وجبرائيل تلحمي وميشال خليفي وهاني أبو أسعد وإيليا سليمان وغيرهم كثيرون جداً.
في سنة 1948 خسر 50% من الفلسطينيين المسيحيين المقدسيين منازلهم في القدس الغربية جراء احتلالها. وفي سنة 1967 وحدت إسرائيل القدس الغربية والقدس الشرقية، فصادرت 30% من الأراضي التي يملكها المسيحيون في القدس الشرقية. وفي عام النكبة هُجِّر أهالي قريتي إقرت وكفر برعم إلى الجش والمدن العربية الأخرى التي خضعت آنذاك للاحتلال الصهيوني ولم يعودوا إليها حتى اليوم على الرغم من أنهم صاروا "مواطنين إسرائيليين".
لعل اهتمام البابا فرنسيس بالفلسطينيين المسيحيين، ونداء الرئيس محمود عباس في هذا الشأن، يساهمان في كبح غلواء هجرة المسيحيين من فلسطين. ومع أن المسيحيين جميعاً في الشرق العربي يتعرضون اليوم لمحرقة حقيقية، فإن المسيحيين الفلسطينيين هم ملح هذه البلاد، وهجرتهم من ديارهم هي إفناء نهائي لعناصر التحضر في هذه المنطقة، وسير متسارع نحو التصحر وموت الشعوب القديمة وبقايا حضاراتها، وفقدان لجمرة الروح الإنسانية التي غمرت فلسطين طوال ألفي عام.