مخطئٌ من يعتقد بأنَّ هناك سلاماً واستقراراً من دون القدس.
ومن يعتقد بأنّ القدس مجرد مدينة فلسطينية تحوي بعض المقدسات فهو واهم. ويخطئ اكثر من يعتبر بأن الدولة الفلسطينية يمكن أن تقوم لها قائمة إذا لم تكن القدس عاصمتها. وساذجٌ من يعتقد بأن تحرير القدس واستعادتها مستقلةً ذات سيادة أمرٌ سهلٌ يتم دون تضحياتـ، ودون استعدادات.
وما يعزِّزُ طرحنا هو الموقف العنصري اليميني المتطرف إلى أبعد حدود، والذي تجسَّد عبر تشكيل حكومة من عتاة اليمين الصهيوني الذي لا يؤمن بشيء اسمه مفاوضات من أجل السلام، ومن أجل حل إقامة الدولتين. فالحكومة الحالية وعلى رأسها نتنياهو وهي الحكومة الرابعة والثلاثون تضع في جدول أعمالها نقطة أساسية ومركزية. بل ومصيرية، وهي تصفية القضية الفلسطينية، وهي تعتقد أن هذه المرحلة هي الاكثر ملاءمةً، وأنَّ عوامل التصفية باتت متوافرة، ولذلك فإن الكيان الصهيوني صعَّد في طروحاته، وفي إجراءاته، وأشبع المجتمع الفلسطيني بجرعات قاتلة من الرعب، والتعذيب، وسفك الدماء، وطبعاً جرى ذلك كله دون مساءَلة أو مقاضاة من أحد حتى الآن.
فحكومة نتنياهو العنصرية هي التي تصر على الفلسطينيين بأن يعترفوا بها دولة يهودية، ومثل هذا الاعتراف سيقود طبعاً إلى تدمير حق الفلسطينيين بالعودة إلى أرض فلسطين التاريخية، كما يقود إلى إجبار القيادة الفلسطينية إلى نفي الرواية التاريخية الفلسطينية التي تقول بأنَّ الشعب الفلسطيني هو صاحب الأرض، وهو من سلالة الكنعانيين واليبوسيين الذين سكنوا فلسطين منذ خمسة آلاف سنة. كما تؤكد حكومة نتنياهو وبكل فظاظة بأن القدس الموحَّدة هي عاصمة دولة إٍسرائيل، وبأنّها متمسكة بالاستيطان على أراضي الضفة الغربية كونها حسب اعتقادها بأن هذه الارض هي أرض الميعاد، وأنها أرض مقدَّسة عند اليهود. كما أنَّ الكيان الاسرائيلي الصهيوني العدواني يقول علناً أنه لا يقبل أي سيادة فلسطينية على أراضي الضفة، وانما جلُّ ما يقدمه كانتونات صغيرة متناثرة تحت اسم دولة ذات حدود مؤقتة. كما أوضح اكثر من مسؤول إسرائيلي بأنهم مع أن يقيم الفلسطينيون دولتَهم في قطاع غزة، لإقناع العالم بأنه قد أصبح دولة فلسطينية في القطاع، وانتهى الأمر.
ولا ننسى في السياسة التصفوية ما يقوم به العدو ميدانياً على أرض الواقع من ممارسات وحشية، واجراءات تعسفية، وأعمال عدوانية وصلت إلى حدود الابادة البشرية، وانتهاك كافة قوانين ومبادئ الشرعية الدولية.
وإذا ما أمعنا النظر بما يجري في القدس من جرائم وانتهاكات تبرز أهمية ما يجري في هذه المدينة المقدسة، وتظهر للعلن أَحجام التحديات الهائلة التي تنتظر أهالي القدس تحديداً مما يؤكد أنها بمقدساتها الاسلامية والمسيحية أصبحت في قمة الاستهداف. وفي هذا المجال ولمزيد من التدقيق فإِننا نذكِّر ببعض الجرائم الماثلة للعيان والتي تتضاعف يوماً بعد يوم:
أ- إن جريمة اغتيال الطفل المقدسي محمد حسين أبو خضير وحرقه حياً بعد خطفه بتاريخ 2/7/2014 مثال على سلسلة من عمليات الاغتيال الوحشي.
ب- الاعتقالات الواسعة التي استهدفت الأطفال تحديداً ومنهم من كان عمره تسع سنوات، ومورس بحقهم التعذيب، والضرب، وفرض الاقامة الجبرية عليهم في بيتهم أو في بيت أحد أقاربهم لعدة شهور، ومنعهم من الذهاب إلى المدرسة، والتهمة دائماً هي إلقاء الحجارة على الجنود.
ج- الاعتداء على المرابطين والمرابطات في المسجد الأقصى الذين يواجهون المستوطنين الذين يقتحمون باحات المسجد.
د- الاعتقالات المتواصلة للقيادات الفلسطينية من أهالي مدينة القدس دون وجود مبررات، وانما من أجل ضرب أبطال المقاومة الشعبية، وما زلنا نذكر توقيف الأخ عدنان غيث أمين سر إقليم القدس الذي أُفرج عنه مؤخراً. والأخ أمين سر اقليم القدس السابق عمر الشلبي الذي صدرت بحقه عقوبة مؤخراً.
هـ- إن الاعتقالات والمضايقات والتحقيقات كانت تصل إلى أمهات وزوجات وأبناء الأسرى من أجل تحطيم إرادة ونفسية المعتقل.
و- ممارسة سياسة العقاب الجماعي التي تتميَّز بالعنف واطلاق النار الحي، ومشاركة المستعربين، والاجهزة الامنية في المطاردات والاعتقالات.
ز- توسيع سياسة هدم المنازل إما بحجة أنها غير مرخَّصة علماً أنها بنيت منذ عشرات السنوات، وامَّا كرد على تنفيذ أحد الشبان لعملية عسكرية. وهذا ما أدى إلى تشريد مئات الأسر بعد أن فقدت المأوى، وإما أنها تضطر للخروج من القدس بحثاً عن العمل في المحافظات المجاورة.
حـ - إٍستخدام سياسة سحب البطاقات المقدسية من إصحابها بحججٍ واهية وطردهم، والسيطرة على منازلهم في إطار سياسة التغيير الديموغرافي لصالح الاسرائيلين.
ط- عدم اعطاء تراخيص بناء لأهالي القدس خاصة للشباب المقبلين على الزواج مما يضطر هؤلاء للاستئجار بأسعار باهظة جداً ، ولكن غالباً ما تلجأ بعض الاسر الى تقسيم البيت الواحد بينهم وبين ابنائهم من اجل ان يبقوا في القدس. بينما تُوزَّعُ التراخيص على اليهود بكثافه.
ي- يقوم الاحتلال الاسرائيلي بمصادرة الاراضي والبيوت وطرد اهلها منها، واقامة حدائق عامة، او مراكز دينية، او كُنسُ على حساب الفلسطينين العرب. خاصة عندما يكون هناك بيت لفلسطيني وسط بيوت يهودية فهم يتعمدون الاساءة للفلسطيني ليلاً نهاراً ، وتهديد الاطفال بالخطف من اجل اجبارهم على ترك المنزل، لكنَّ صاحب البيت ولو كان رجلاً او امرأة متقدم بالعمر يرفض الرحيل لأنه مؤمن بأنَّ القدس له.
ك- لعلَّ الأخطر في الامر هو المخطط الجهنمي الذي يمارسه الاحتلال داخل المسجد الاقصى وباحاته وذلك بهدف اقتسامه مع اليهود المستوطنين، الذين باتوا يدخلون يومياً الى باحات المسجد بحماية الجيش، كما أنَّ مسؤولين اسرائيليين كباراً باتوا يأتون الى المسجد الاقصى للتأكيد على وفائهم ودعمهم للمستوطنين وللمخطط التقسيمي، وفي الوقت نفسه لا يُسمح للفلسطينيين اصحاب الارض، واهل الاقصى بالدخول اليه إلاَّ من يتجاوز عمره الخمسين سنة او اكثر. وهذا ما يؤدي الى حالة اشتباك يومي مع جنود الاحتلال داخل باحات المسجد، وخارجها، وفي احياء ومخيمات القدس.
ل- إنَّ الوضع في القدس ذاهبٌ الى الانفجار بوجه الاحتلال، خاصةً غول الاستيطان بات يفترس معظم الاراضي، والقدس من كافة الجوانب محاطة بكتل استيطانية تكبر يوماً بعد يوم وبشكل ممنهج، والمخطط الاستراتيجي لما يسمى القدس الكبرى بدأ يكتمل، وها هي كتلة كفرعتسيون من الجنوب، وكتلة ارائيل في الوسط، وشرقاً معاليه ادوميم، وفي الشمال كتلة الفي منشيه.
امام هذا الوضع المأساوي، وامام حالة الخنق الاستيطاني الذي تعيشه القدس فإنَّ الامر خطير ويتطلب من جميع الاطراف ان يتحملوا مسؤولياتهم والاَّ سنفقد اولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
اولا: المطلوب من ابناء الامة العربي والاسلامية ان يُقدموا الدعم المطلق الاقتصادي والسياسي والمعنوي لأهالي القدس من اجل المحافظة عليها بوجه المحاربة الاسرائيلية، والاستهداف الدائم للاقتصاد الفلسطيني، وللمقدسات، وللانسان. وهنا نقول بأن على من يستطيع زيارة القدس ورفع معنويات اهلها، ودعم اقتصادهم عليه ان لا يتأخر، لأن مثل هذه الزيارة هي للسجين، وللضحية، وليس للسجَّان كما يدَّعي البعض لأنَّ العدو الاسرائيلي لا يريد ان يرى عربياً او مسلماً في القدس، فهو يريدها نظيفةَ من العرب. ولا ننسى ان الشيخ القرضاوي زار قطاع غزة، واخذ اذناً اي تنسيقاً امنياً من الاسرائيلين. ونحن نقول علينا ان لا نُضعِف اهالي القدس، ومقوِّمات الحياة هناك من خلال فتاوي تتناقض مع مصلحة المسلمين في القدس.
ثانياً : على كافة القوى الفلسطينية ان تكون وفية للقدس واقصاها، وان تسعى الى تجسيد الوحدة الوطنية ميدانياً، وان تكون البرامج الفلسطينية موحَّدة لا ان تكون حزبية متنافرة تسعى لايجاد الفرقة، وافتعال الصدامات لتحقيق مكاسب تنظيمية ضيقة، فعلى القوى الموجودة في القدس ان تحترم الضيوف، وان ترحِّب بهم ، لا ان يسمحوا للبعض بالتطاول على رجال الدين والضيوف لاقناع الزوار العرب والمسلمين بعدم الحضور.
ثالثاً: على الجميع ان يضع في حساباته ان القدس هي قلب الامة، وهي عاصمة دولة فلسطين المستقلة ذات السيادة والواقعة على كل الاراضي المحتلة العام 1967 في الرابع من حزيران. ونقول للجميع اذا فقدنا القدس فقدنا فلسطين، فالقدس اولاً، والقدس قبل كل شيء.
افتتاحية مجلة "القدس" العدد "315"
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها