هذه التسمية ليست عتيقة لنابلس ، بل أطلقت على جبل نابلس أثر تصديه لحملة نابليون بونابرت ، ووراء هذه التسمية تجربة ثورية تستحق الدراسة والاستفادة منها، فهي تجربة نضالية تطبق مفاهيم كثيرة لعل أهمها أن كل البنادق ضد العدو من مبدأ وحدة القرار ضرورة للانتصار بالمعركة وأن الخلافات الثانوية تسقط مرحليا لحين تحقيق الهدف المشترك وهو الدفاع عن الأرض.
يروي لنا التاريخ أن الجيش الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت كان يحاول احتلال مدينة عكا – عاصمة فلسطين في ذلك الوقت – فعندما أحس والي عكا العثماني أحمد باشا الجزار بعدم إمكانية مواجهة جيش نابليوت بالقوات المتجمعة حول عكا استنجد بشيخ نابلس وأهاب به إرسال مدد له من الرجال والعتاد لدحر الفرنسيين الذين جاؤوا لهدم الدين واحتلال بلاد الشام، وقد أرسل ذلك بقصيدة مؤثرة، تعبر عن أخوة أهل الوطن ووحدتهم، تأثر شيخ نابلس آنذاك الشيخ يوسف آل جرار، فهبّ يستنهض الهمم بقصيدة أخرى تعبر عن الغرض بحماس شديد لنجدة مدينة عكا وواليها وساكينيها، فلبّى مشايخ الجبل وفرسانهم من قبائل آل النمر، آل جرار، آل الجيوسي، آل برقاوي، وآل طوقان وكذلك مواليهم من أهل الحضر والنواحي.
بدأ الشيخ يوسف جرار قصيدته أن الكفار احتلوا البلاد وهذا يشعل النار في قلب كل مؤمن ويسيل دمع الرجال ويقول في مطلعها : مِلّت الكفار أجونا صايلين مرادهم يدعوا الجوامع دائرات.... ثم حدّد أسماء العائلات المدينية الحاكمة وعشائر جبل نابلس المتنفذة في الريف خلال تلك الأيام، مادحاً شجاعة آل طوقان والنمر والريان والجيوسي وعطعوط والحاج محمد وغازي وجرادات وآل ياسين وعبد الهادي، وبسالتهم العسكرية فيقولها شعرا بالأبيات (هذا جزء مختار من القصيدة) التالية:
آل طوقان اسحبو لسيوفكم واعتلوا لسروجهن هل غاليات
آل النمر ها النمورة الكاسرات عدلوا صفوفكم هل باسلات
محمد العثمان إجمع الرجال حضر الأبطال من كل الجهات
أحمد القاسم يا ليث جسور أنت قيدوم الصفوف الماشيات
إن أبرز ملامح القصيدة هو فيما لاتقوله. فهي لا تأتي ، في أبياتها الواحد والعشرين، إلي أي ذكر للحكم العثماني، ولا لضرورة حماية الإمبراطورية أو المجد والشرف المرجوّين في خدمة السلطان. بل أن الشيخ يوسف يحدد الخطر الداهم من حيث هو تهديد للدين والعرض، كما أن مناشدته تشدِّد على الانتماء المحلي قبل كل شيء (يا نوابلسة .... سيروا على عكا جميعاً كلكم).
وعلى الرغم من أن زعماء جبل نابلس كلهم، بمن فيهم الشيخ يوسف، أغرقوا بفرمانات من إستنبول تنبئ بالغزو وتدعو إلي جمع المال والرجال، فإن القصيدة تتعمد ترك مصدر الرسائل غامضاً، ولا تقول إلا إنها جاءت من بعيد. وهذا يدلل على استقلالية قرارهم من جانب كما يدلل على عدم وجود حامية من الجيش العثماني تحمي جبل نابلس في ذلك الوقت، فجاءت المبادرة الفردية من الشيخ يوسف جرار لتوحيد قوات الجبل تحت راية واحدة، والمهم بهذه القصيدة ذكره آل طوقان في مطلع العائلات وهذه العائلة تعد منافسه في زعامة جبل نابلس ( مقصود جبال نابلس من طولكرم وقلقيلية وجنين وطوباس ونابلس والنواحي المحيطة بهم) وكذلك الأمر مع آل النمر، في هذه القصيدة تلخص أن ميدان المعركة في الدفاع عن البلاد والعباد ليس له علاقة في مفهوم الزعامة السياسية، وفعلا سار جيش نابلس بخطة عليها إجماع من كل العشائر وأهم مافي خطتهم أنها وضعت جيش لحماية نابلس وكذلك النواحي المهمة فيها، كما أنها لم تعتبر جيش المدد المطلوب إدخاله إلي عكا جزء من القوة القتالية.
هاجم جيش نابلس القوات الفرنسية في مرج بني عامر واستطاعوا إخراجهم منه فاندحر الجيش الفرنسي إلي وادي عزون، فتعبهم الجيش النابلسي، ولما وجد الجيش الفرنسي ضيق المقام عليهم، مالوا إلي الخديعة والحيلة، فقسموا جيشهم إلي قسمين، حيث انسحب القسم الأول إلي السهل، وتوارى القسم الثاني في أحراش وادي الباشا، فعلوا ذلك تاركين ذخائرهم ليشغلوا العرب بها، وتنبّه العرب إلي حيلة الفرنسيين، وبدلاً من أن يقعوا في مصيدة خطة قائد جيش نابليون، قام فرسان نابلس بإطلاق النار على العتاد والذخائر فاحترقت، واحترقت معها الأحراش القريبة بمن فيها من جنود الجيش الفرنسي.
حينها صعق نابليون وخاب أمله لما لحق بجيشه، مما دفع أحد ضباط نابليون واسمه دوماس على مهاجمة المقاتلين العرب على رأس جيش لتأديب جبل نابلس، فأحرق قلعة صانور، لكن محاولته باءت بالفشل، حين تصدى له أحد فرنسان نابلس واسمه عايد الشبيطي الذي قتل دوماس، أما الجيش الفرنسي فقد تشتت في عدة مواقع وقد أسر العديد من جنده في نواحي نابلس، والأهم من ذلك فقد استطاع الشيخ الجرار من فك حصار عكا وإدخال مدد من الرجال والذخائر والطعام أيضا. ونجدة نابلس تعد من العوامل الرئيسية لهزيمة الجيش الفرنسي على أسوار عكا، إلا تسمية جبل النار جاءت من حرق الجيش الفرنسي .
إذا تتبعنا سير الأحداث في نابلس بعد هذه المعركة المهمة، نجد أن روابط الوحدة بين العشائر لم تدم طويلا حيث أن لكل عشيرة نفوذ يتضارب مع غيرها من العشائر، كما أن علاقات العشائر النابلسية مع والي عكا لم تكن حميمة بل أنها شهدت العديد من الاشتباكات المسلحة، خصوصا أن من عشائر نابلس منهم أنصار حاكم محمد علي الكبير، لكننا هنا بصدد تقييم التجربة من ناحية سرعة الاعداد والتمسك بالخطة دون أي تعديل، أضف أنه لا يذكر التاريخ أي خلافات أثناء تنفيذ القرار بل أن الانضباط كان أعلى مما توقع نابليون نفسه.
إن قضية تجمهر تنظيمات أو عشائر تحت شعار كل البنادق نحو العدو يعطي فسحة حقيقية لتجربة مميزات الوحدة الوطنية، ولعل مفاخر جبل النار تعلمنا أهمية ترسيخ هذا المفهوم لمدى أطول من معركة دامت عشرون يوما، وهذا الثابت في موروثنا الشعبي من الزجل والموال الذي يزخر بتمجيد جبل النار أي أن نابلس عندما توحدت حرقت الجيش الفرنسي، يا ترى لو أن كل فلسطين توحد ماذا ستفعل؟
بقلم/ خالد أبوعدنان
ولدت لاجئا وأحيا مهاجرا
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها