ما زال مهرجان غزة الفتحاوي، يرسل اشعاعا في عقول المتابعين للشأن الفلسطيني، لأن هذا المهرجان كظاهرة غير مسبوقة ومفاجئة قياسا إلى العوامل المحيطة!!! وكفعل جماعي مبادر خارج عن المقاييس!!! لا يمكن إطفاء موجاته الصادرة عنه بسهولة، وإن بدأت المحاولات للوصول إلى هذا الإطفاء في اليوم التالي مباشرة، حين جرت محاولات تصغير الظاهرة ليصبح بمستوى الطامحين الصغار واللاعبين الصغار، بل إن بعض هؤلاء الصغار بدأوا يرددون إشاعات وحكايات صغيرة عن انجازات متوهمة تماما بدعوى أنهم هم الذين منعوا الأذى الوهمي عن تلك الظاهرة وإلا لما حدثت، وهذا شيء يثير الأسئلة والشكوك في آن واحد.

ما علينا!!!

وعودة إلى مهرجان غزة الفتحاوي، الذي شكل ظاهرة تتطلب المزيد من العمق والصدق في قراءتها، حتى لا تنطفئ بسرعة، ويعود « العي عي والصي صي» كما يقول المثل الشعبي الفلسطيني، ونسقط في قاع البئر من جديد.

اعتقد أن المهرجان، قد شكل هجوما معاكسا ضد نظرية الشرق الأوسط الجديد على الطريقة الإسرائيلية، التي تهدف منذ سنوات إلى إخراج العالم العربي من اللعبة تماما عبر تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، وإدخاله في حالة مائعة دائما لا تستقر على حال، بدءا بتمزيق القضية الفلسطينية أرضا وشعبا وهدفا وآليات عبر هذا الانقسام الاسود الذي أبشع بشاعاته أنه لا يحظى بأي غطاء وطني أو سياسي أو أخلاقي على الإطلاق!!! لأنه فعل سياسي شاذ فإنه يفتك بحياتنا على كل المستويات.

المهرجان هو إعلان جمعي عميق وصاخب برفض قاطع لهذا التشيؤ الذي أصاب حياتنا السياسية، وأن هذا الرفض العميق الصاخب يأتي من غزة التي – حسب الأقاويل السياسية – ذهبت إلى الصحراء ولن تعود، وانسلخت عن الجسم والمسار والمصير الفلسطيني، ولن تلتئم ثانية!!! وأن هذه التقولات الإسرائيلية في الأصل سقط في هواها أطراف كثيرون دون مقاومة!!! وهكذا فإن غزة التي تعودت على هذا النوع من القيامات المفاجئة، مثلما حدث في إعصار 1952 وما تلاه من انتشار الأوبئة، وفي انتفاضة عام 1955 لإسقاط مشاريع التوطين في سيناء وغيرت وجه المنطقة، وتخلق حركة فتح في رحمها تحت تجربة الاحتلال عام 1956، واندفاعها الشامل نحو الثورة عام 1987 التي كانت إحياء لمنظمة التحرير الفلسطينية من موت محقق كان مخطط لها بإتقان، ولملمت كل طاقتها الإعجازية، وهذا المهرجات الظاهرة، الذي يتوجب على المثقفين والمبدعين وأذكياء السياسيين أن يسجلوا تفاصيله، والكيمياء التي حكمت تلك التفاصيل، وأن يتعرفوا على الملامح الأصلية التي لا يرد ذكرها في التقارير اليومية البلهاء، وأن يقرأوا الرسائل حتى لو كانت تلك الرسائل الإيجابية الملهمة صادمة لبعضهم!!!

و في هذا السياق، أريد أن أسجل بعض المفارقات والأمثلة التي تدل على أن المهرجان كان عبارة عن فعل مكثف أكبر ألف مرة من طرق التفكير السياسي السائدة في الساحة الفلسطينية.

المفارقة الأولى: كان هناك جدل كبير حول تحديد الموعد، في أي يوم يكون المهرجان، وكان المتجادلون يبذلون جهودا كبيرة للدفاع عن المواعيد التي يفضلونها ودحض المواعيد التي يقترحها غيرهم، وأخيرا حسم الأمر من قبل الهيئة القيادية المختصة بأن يكون يوم الجمعة يوم إجازة، وكانت الصدمة القاسية، أن فريقا من أولئك المتجادلين رفض رفضا قاطعا هذا اليوم، واعتبره كارثة، بدعوى أن يوم الجمعة يتناقض تناقضا مطلقا مع عادات غزة!!! لأن الناس في القطاع على حد زعم هؤلاء، يعدون الطعام في بيوتهم، وبعد الصلاة يتجمعون مع عائلاتهم لتناول الغداء، ثم لا يخرجون في قيلولة ما بعد الظهر!!! تصوروا بالله عليكم، أشخاصا في موقع القيادة الأولى، يفكرون بهذه الطريقة، يجهلون ملامح شعبهم، لا يعرفون شيئا عن نبضه، آلامه العميقة، انفجاراته المخبأة تحت الجلد، ووجعه الذي لا يضاهى، وحلمه الذي يمكنه من الاستمرار في الحياة!!! هل مهرجان غزة الفتحاوي يستمر في طرح هذه الأسئلة الكبرى، أم تتكاثر الأيدي العابثة لتكتم الأنفاس وتكتم الأسئلة؟؟؟

المفارقة الثانية: انه من بين الذرائع والحجج التي كانت تتذرع بها حركة حماس في عدم السماح بمهرجان لفتح في مكان مفتوح مثل ساحة الكتيبة أو ساحة السراي، هي المحاذير الأمنية، والتقارير التي تتراكم فوق بعضها حول تداعيات الأوضاع الأمنية واحتمالاتها الخطيرة، وأن أنهارا من الدماء يمكن أن تجري، وكوارث يمكن أن تحدث، ثم جاء هذا المهرجان الظاهرة، أكثر من مليون ومئتي الف شخص، رقم غير مسبوق في المئة سنة الأخيرة في العالم العربي ودون أدنى حضور أمني ولو بنسبة واحد في المليون، ويمر المهرجان بحالة سلمية مذهلة، حالة سلمية لم تشهدها المهرجانات والتجمعات التي حدثت في العقود الأخيرة في أرقى عواصم العالم!!! ولا حادث واحد مهما كان صغيرا، حتى التدافع بسبب الزحام كان حنونا، دون حوادث، ولا احتكاك سلبي مهما كان صغيرا، ولا جزئية خارجة عن السياق!!! لك الحمد يا إلهي العظيم الذي أودعت في هذا الشعب أسرارا بديعة خارج التوقعات.

لا أريد أن استفرد أكثر في ذكر الأمثلة والمفارقات، أحببت أن أقول فقط، ان الفلسطينيين حين يؤمنون بقيامتهم فإنهم يضعون هذه القيامة فعلا ويغيرون وجه هذه المنطقة فعلا، وهذا بالضبط ما أرادت غزة أن تقوله في مهرجانها الفتحاوي، فيا سيدتي غزة، يا ملكة الحب والحزن والغضب، لك التحية والسلام.