بين الثبات على الاستراتيجية، والمراوغة والخداع في العلاقات العامة تمضي السياسة الإسرائيلية، نحو متابعة مخططاتها الإجلائية الإحلالية، لتحقيق هدف إسرائيل الكبرى. تدعونا السياسة الإسرائيلية وما تعكسه من تطورات اجتماعية ثقافية إلى إعادة قراءة المشروع الصهيوني الأول، الذي لا يزال صالحاً للعمل والذي يقوم على فكرة زرع جسم غريب عن المنطقة، في فلسطين على أنقاض ما يعتبرونه جماعات، والمقصود الفلسطينيون الذين لا يشكلون شعباً. قد لا تدرك القوى الغربية الكبرى التي خلقت إسرائيل، وأمدتها بكل أسباب القوة والتفوق، هذه الحقيقة، وقد تدركها لكنها لا ترى مبرراً للاصطدام، ولذلك فإنها تفضل بين الحين والآخر، الصمت أو التواطؤ أو منحها المزيد من الوقت، لخلق وقائع يصعب تجاوزها.
لقد انتهى الفصل الطويل الخاص بالمفاوضات، كسبيل لاجتراح تسوية على أساس رؤية الدولتين، ولكنها تستمر كذريعة، يجري توظيفها في انتظار ما تسفر عنه التحولات والصراعات الجارية في المنطقة العربية. هل تحتاج إلى المزيد من القرائن والحقائق، لكي يدرك كل اللاعبين في المنطقة وعليها، بأن إسرائيل تستبق، تفكيك المنطقة إلى دويلات طائفية أو عرقية، أو دينية، لتبرير تحولها إلى دولة دينية، تستمد شرعيتها من عملية التماثل مع مخرجات الوضع العربي؟
مرة أخرى تعود إسرائيل إلى لعبتها الأثيرة التي خبرها الشعب الفلسطيني كلما واجهتها أزمة، يمكن أن تحد من استمرارها في مواصلة مخططاتها. أما تشخيص الأزمة التي تواجهها إسرائيل فهي تتصل بنجاح السياسة الفلسطينية في تغيير مزاج ومواقف الرأي العام الدولي، خصوصاً في الدول التي ظلت على دعمها القوي للدولة العبرية، تتقدم مجموعة الدول الأوروبية التي بادرت إلى إنجاح المشروع الصهيوني، عن الولايات المتحدة التي تسلمت الراية لرعاية وحماية ودعم إسرائيل، بكل عدوانيتها وأطماعها التوسعية.
البرلمانات الأوروبية تكاد تجمع على توصية حكوماتها بالاعتراف بدولة فلسطين، كتعبير عن تصاعد في وعي الرأي العام الأوروبي لكنه الصراع، والحاجة لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، أو بعض هذه الحقوق. ولكن كم تحتاج الحكومات الأوروبية، وماذا تنتظر، حتى تتقدم نحو الاعتراف بدولة فلسطينية تحت الاحتلال، وكم تحتاج بعد ذلك لكي تقتنع بضرورة العمل من أجل تحقيق هدف إقامة هذه الدولة؟
في كل الأحوال يعبر هذا الفارق، في الزمن والعمل، بين ما تقتنع به وتراه البرلمانات الأوروبية، وبين ما ينبغي على الحكومات أن تفعله، إما عن تخلف في وعي أصحاب القرار السياسي، أو عن تواطئهم مع المخططات والسياسات الإسرائيلية وربما كان ذلك لأن أوروبا الموحدة، لا تزال خاضعة للسياسة الأميركية، وتكتفي بدور ساعي البريد الذي عليه أن يوصل الرسائل بإيعاز من الأخ الأكبر ونقصد الولايات المتحدة.
فرنسا، تتقدم بمشروع مبادرة إلى مجلس الأمن، بعد تصويت برلمانها على توصية الاعتراف بالدولة الفلسطينية، هذا التصويت الذي يبدو وكأنه الطعم الذي على الفلسطينيين والعرب ابتلاعه.
المبادرة الفرنسية، إلى مجلس الأمن، والتي تتطلع إلى منح المفاوضات فرصة سنتين إضافية، من خلال مؤتمر دولي، تستهدف حقيقة قطع الطريق على مشروع القرار الفلسطيني العربي إلى مجلس الأمن بشأن إنهاء الاحتلال خلال ثلاث سنوات.
إن سنتين من المفاوضات، في ظل وقائع وسياسات باتت معروفة في إسرائيل، لن تزيد عن كونها منحة أو مكافأة لدولة المتطرفين العنصرية لكي تمعن في تكريس المزيد من الوقائع، ومن يدري، ان كنا سنجد فلسطينياً واحداً في القدس بعد مرور السنتين؟
قد يكون الاقتراح، الفرنسي مقبولاً، ولكن مع شروط، وآليات عمل تمنع إسرائيل من مواصلة الاستيطان والتهويد، ومصادرة الأرض، شروط لا يمكن الثقة في مدى جديتها، إن اتخذت شكل الوعود والمواقف النظرية، ولذلك ينبغي أن تكون جزءاً أساسياً من المبادرة القرار، هذا القرار الذي يتوجب أيضاً أن يكون إلزامياً.
مع ذلك نشك كثيراً في أن الولايات المتحدة ستسمح بذلك، والشك أكبر، في أن تنصاع إسرائيل لمثل هذه المبادرات، وهي التي رفضت ولا تزال ترفض كل القرارات والقوانين الدولية، وتتحدى المجتمع الدولي، بدون أن تخشى عقاباً. هربت إسرائيل من هذه الأزمة، حين أقال رئيس حكومتها نتنياهو وزراء "يوجد مستقبل"، وحركة ليفني، إلى انتخابات مبكرة ستجري في السابع عشر من آذار القادم، ما يعني أن إسرائيل ستكون غائبة عن "وعي السياسة الدولية"، لستة أشهر على الأقل.
من الواضح أن إسرائيل تتلاعب في الوقت، وكلما نجحت في استنزاف المزيد منه، قلصت الفترة الزمنية المتاحة أمام إدارة الرئيس الأميركي، باراك اوباما، التي تأمل أن تفعل شيئاً على صعيد التسوية لكن فعلها لا يداني آمالها.
جو بايدن، نائب الرئيس اوباما، اعترف مؤخراً أن إدارته من أكثر الإدارات حرصاً على حماية إسرائيل وأمنها، وانها على اتفاق تام استراتيجياً مع إسرائيل، رغم بعض الخلافات التكتيكية، ما يعني أن إسرائيل تتحدى حتى حلفائها الراسخين، بايدن يعترف أن إدارته قدمت لإسرائيل سبعة عشر ملياراً من الدولارات، كدعم عسكري وأمني تبدو وكأنها ضريبة أميركية لصالح إسرائيل. اعترافات بايدن لا تعني شيئاً ولا يمكن البناء عليها، لتجديد أوهام العودة للمفاوضات ما يستدعي ولو لمرة واحدة أن يحزم الفلسطينيون والعرب أمرهم، ويمضوا نحو تنفيذ استراتيجياتهم لا استراتيجيات ومناورات الآخرين وأول أولوياتها تحقيق المصالحة الفلسطينية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها